رحيل الزوبعة
عبد الله نور .. فنان مرهف الحس شاعر لم يكتب الشعر، قاص لم يكتب القصة، روائي لم يكتب الرواية، مسرحي لم يكتب المسرحية، لكنه حين يتكلم عنها وحولها أو يكتب يخضر المداد، يندلع البرق من حروفه وتمنح السحب والغيوم كلماته ما فيها من مطر. لكتابته زجل القطا ودمدمة الريح في الفجاج، ولها أيضا ترقرق الغدران وعزف الجن.
ما رأيت عبد الله نور أو سمعته إلا وكأنني في حضرة ساحر إفريقي، صوته العذب المثقف حين ينتشي بقصيدة أو فكرة محلقة أو تجليات تأملية لا يترك للعصافير فرصة لكي تغرد ولا لأوراق الشجر لكي ترعش ولا للجالسين حوله سوى أن يكونوا محبوسي الأنفاس.
عبد الله نور خلطة غرائبية من الريادة والبوهيمية والطفولة ومن الصعلكة والمهابة الغامضة. اختلف عن كل مجايليه من سدنة التراث فقد كانت له عينا صقر تلتقط من بين الأكداس اللؤلؤ والدر الثمين. كانت له حاسة الخيل في شم المطر يصهل ويكر خلف الأنواء. ذو ذائقة مفرطة في قدرتها على الوشاية بالرحيق مهما تخفى، كان بالفعل نبراساً في الدلالة على الجمال والتحريض على الافتتان به، له نظرات استخبارية تترصد مكامن الإبداع وساعة يضبطه متلبساً بالانزواء يدفع بالقراء لإلقاء القبض عليه للحفاوة به وتتويجه نجمة لصباح الكتابة والقول.
قلت: اختلف عبد الله نور عن كل مجايليه وأريد أن أضيف: وخالفهم أيضاً. كان مشاكساً كموج البحر، قلقاً كالريح، إن أمسك بنص أدبي شعراً أو نثراً، أخضعه لرقصة الزار، أوقد حوله النار وترك الجمر يتلظى إلى أن يغشى الدمع عيون الحاضرين، إما لأنهم تنهدوا وبكوا معه، إما لأنهم ضحكوا وسالت دموعهم، أو لأنهم أرعش الخجل عيونهم فاخضلت بالدمع أو احمرت لأنها اتسعت من الدهشة.
لم تكن كتابته نقداً مسرفاً في استعراض المحفوظات من جاهز قواعد اللغة والبلاغة والعروض والنظريات. كان مثل فارس مغولي شرس يرفس بقدم عنفوانه ويضرب بجناح ذائقته كل ذلك ثم يهطل من سماء روعته بقول يصبح معه النص عيناً بعد أثر، ذلك أنه لا يطيق جنائز الكلام المسجا على نعش السائد المألوف وإنما ينفخ في النص الروح ولو بنص مضاد !!
إن كان للحداثة في السعودية أب حقيقي، أو إن كان لا بد أن يكون لها أب فلا أحد سوى عبد الله نور، فقد كان شجرة باسقة أصلها ثابت وفرعها في السماء. لم يكن منتحلاً لها ولا راكبا موجتها ولا دعياً فيها ولا متطفلاً عليها. لقد جبل على الحداثة رضعها ورضعته. ألم أقل كانت له عينا صقر؟ حاسة الخيل؟ نظرات استخبارية؟ ذائقة مفرطة؟ مشاكساً كالبحر قلقا كالريح؟ اختلف وخالف مجايليه؟ كذلك كان ابن خلدون، أبو العلاء المعري، أبو حيان التوحيدي، المتنبي، دعبل الخزاعي، عروة بن الورد وغيرهم من أجدادنا المختلفين المخالفين لمجايليهم رأوا بعيني زرقاء اليمامة واتقنوا حرفة النحل. لذلك راؤنا وطعمنا نحن رحيق قولهم وسوف يسري هذا في الأزمنة القادمة. أليست هذه هي الحداثة؟
إن كان عبد الله نور، لم يترك كتاباً فقد نثر خرائد كلماته في الصحف، أما أثرة الأعظم ففي نثره بذور لتمرد على بليد الكتابة أينما حل وارتحل. ظل مثل "ديوجين الكلبي" يحمل مصباحه، حتى في وضح النهار، يعلقه في دهاليز الحياة الثقافية وأقبيتها وحتى في ردهاتها أيضا لكيلا يستسلم من في قلبه ذرة من ثقافة لسقيم القول وغث الحديث أو ميت الآراء ومحنط التعبير.
لقد كان عبد الله نور مهووساً بتأليف كتاب لم يكتب، برواية لم تخطر على قلب بشر، ترك لتجليات اللحظات الحميمة فرصة سرقة عناوينها من لسانه، وعرف بعضها الطريق للصحف، إلا أن ذالك كله ظل حلماً مع وقف التنفيذ .. ولأن "بعض الربيع ببعض الزهر يختصر" كما قال الشاعر عمر أبو ريشة، فلعل إدارة الأندية الأدبية في رعاية الشباب - إن كان فيها ذبالة من نشاط أو كان فيها رمق - أن تبادر إلى جمع نتاجه المشتت في الصحف على مدى نصف قرن، تصدره في كتب تحمل اسمه، لأن ذلك يتطلب بحثاً واستقصاءً ليس بوسع شخص أن ينهض به. أو لتتولى هذه المهمة مكتبة الملك فهد الوطنية. ذاك بعض من الوفاء للرجل الذي كان زوبعة أينما كتب أو جلس .. رحمه الله عبد الله نور .. ورحمنا جميعاً معه.