مَن يهوّن من مشكلة البطالة وآثارها السيئة .. آثم في حق الوطن!!

هل تأملتم, أيها القراء الكرام, في الصور المؤلمة التي نقلتها الصحف المحلية يوم الخميس المؤرخ 22/3/1427هـ, التي جسدت الموقف في صور معبرة غطت صفحات كاملة عن ذلك التجمع الكثيف لأكثر من عشرة آلاف شاب تقاطروا من مختلف أنحاء الوطن للتقديم على وظيفة جندي, نعم جندي, في معهد الجوازات في الرياض, وهل تمعنتم في المعاني المؤثرة التي نقلتها الصور لمعنى الجحود الذي نقابل به أحيانا, رغبة أبنائنا في العمل وخدمة الوطن؟! وهي المعاني التي لم يستطع كاتب, مهما يملك من قدرة, التعبير عنها بصدق, كما عبّر عنها الموقف ذاته!! وترجمت الصور جوانب منه, لتقف شاهدا على حجم مشكلة البطالة وآثارها السيئة!!
القصة تتلخص في أن معهد الجوازات أعلن عن طلب شغل 500 وظيفة بمسمى جندي, وحدد يوم الأربعاء 21/3/1427هـ, موعدا لتقديم الطلبات, فتدافع ما يفوق عشرة آلاف شاب من مختلف أنحاء المملكة, متأبطين ملفاتهم العلاقي الخضراء الشهيرة, والعريقة عراقة البيروقراطية في بلادنا, وبدأوا في التجمع منذ ظهر اليوم الذي قبله, حتى ضاقت بهم الطرقات والشوارع وبدأت البوابات تهتز أمام ضغطهم, وسقط من سقط مغمى عليه من الإعياء والتزاحم, وهو ما أثار قلق المسؤولين, وربما عطفهم ليأذنوا بفتح بوابات ساحة المعهد عند الساعة الواحدة ليلا, كما ذكرت الصحف, ليزيد التدافع والازدحام, ويسود الهرج والمرج, وعبارات التذمر والاحتجاج, ويؤدي الأمر بالمسؤولين إلى الاستعانة بمكبرات الصوت لتهدئة المتقدمين, ثم اللجوء إلى الاستعانة بقوات أمن إضافية للسيطرة على الموقف, حيث قضى معظم المتقدمين ليلته واقفا وفي سيارته, أو مضطجعا على الرصيف بسبب عدم قدرة البعض على توفير أجرة المبيت في فندق متواضع, أو شقة مفروشة, ظنا منهم أنه سيكون هناك تنظيم للتقديم تكون الأسبقية فيه لمن يحضر أولا, ولكن أنّي لمثل هذا التجمع أن ينتظم في طوابير ستكون بالتأكيد فوق طاقة المكان؟!
وفي ظل وضع كهذا لهم يكن بالإمكان أن تتم عملية قبول الطلبات واستقبال الملفات في هدوء وتنظيم, الأمر الذي دعا المتقدمين إلى الاحتجاج على أسلوب استلام الملفات دون التأكد من استكمال الوثائق, مما دفع بعضهم إلى فقدان الأمل ومغادرة المكان, غير قانعين من الغنيمة بالإياب الذي لم يجدوا مفرا منهّّ!! وكما نقلت الصحف, على لسان البعض منهم, يقول أحدهم إنه قدم من مدينة الطائف مع بعض زملائه منذ ظهر يوم الثلاثاء, وانتظروا على مدى 15 ساعة, لأن ظروفهم المادية لا تمكنهم من استئجار مكان للمبيت, ويقول آخر إن المتقدمين أتوا من مختلف مناطق المملكة, وتحملوا مشقة السفر والانتظار, وأن البطالة وعدم توافر فرص عمل من أسباب تهافت الشباب على التقديم للحصول على فرص عمل, وأن العديد من المتقدمين متخرجون منذ سنتين, ولم يحصلوا على فرص عمل, كما يضيف آخر أن عددا من المتقدمين سبق أن تقدموا بملفاتهم لدورة العام الماضي والعام الذي قبله, وطالبوا أن تكون هناك آلية للتقديم وتسجيل الأسماء تعتمد على معايير عادلة مثل النسبة في الثانوية العامة.
هل يوجد بعد هذا البرهان, من يشكك في وجود البطالة, أو يقلل من آثاره السيئة على المجتمع والوطن, أو يزعم, كما نسمع أحيانا, أنها انتقائية, بمعنى أن الشاب السعودي يفضل أن يبقى عاطلا بعض الوقت, في انتظار عمل يتصف بالدعة والراحة؟! أو أن الشاب ينتقل من عمل إلى آخر, بحثا عن أكثرها استرخاء. إن من يعتقد ذلك يكون مغالطا, وآثما في حق أهله ومجتمعه ووطنه, فهل من يبحث عن وظيفة جندي وهو يحمل شهادة الثانوية العامة, أو ربما أعلى منها, يوصف بأنه يبحث عن الدعة والاستكانة, وهو يعلم أن مثل هذه الوظيفة تتطلب تدريبات شاقة وعملا محفوفا بالمخاطر, غير مقيد بوقت أو مكان؟! هل من يبحث عن وظيفة جندي يكون انتقائيا, أو لديه وظيفة أخرى يفضل هذا العمل عليها؟! وهل من يأتي من أطراف المملكة ينتظر وقتا طويلا في الأجواء العاصفة للعاصمة هذه الأيام, لتقديم ملفه, رغم علمه بضيق الفرصة أمامه للقبول, يمكن أن يكون غير جاد, أو حريص, أو مستميت في البحث عن فرصة عمل شريفة تحفظ كرامته من الامتهان؟
صحيح, من الوجهة العقلانية, إنه لا يصح أبدا أن تكون لدينا بطالة بهذا الكم ونحن نفتح بلدنا ومكاتبنا وبيوتنا لما يزيد على ستة ملايين عامل من مختلف أصقاع الأرض, وصحيح أننا صنعنا البطالة بإرادتنا, شركات ومؤسسات وأفراد وأجهزة حكومية, عندما قربنا الأجنبي, وائتمناه على أعمالنا وأسررنا له بما لا نستطيع الإسرار به لابن الوطن, وشاركناه, بل تستّرنا عليه, وسلمناه أعمالنا يديرها كيف يشاء, الأمر الذي نستحي من فعله مع ابن الوطن, لكن لنفرض أن ذلك حدث في غياب الضمير والتفكير, أو عندما لم يكن وضع البطالة بالحجم المخيف الذي تكشف عنه المؤشرات يوميا وآخرها مؤشر معهد الجوازات, الذي يستحق المعهد الشكر على ابتكاره ليضيف آلاما إلى آلام الناس المتجددة من مؤشر الأسهم!!
أليس ذلك كافيا لإيقاظنا وتنبيهنا؟! ألسنا ندرك أننا شعب فتيّ, يحب الإنجاب, وما يأتي بالإنجاب؟ معظم سكانه من الشباب, يتضاعف عدد من يقف منهم في طوابير العمل على الأبواب؟! ألسنا على إطلاع بما تقذفه الثانويات والجامعات والكليات والمعاهد سنويا, مما يقدر بمئات الآلاف من الخريجين, وأن الرقم الذي يتم توظيفه سنويا من هذه الأعداد تستحي الجهات المسؤولة عن إعلانه؟!
الأمر الآخر الذي يحب أن نعيه, أنه لم يقل أحد إننا نستطيع الاستغناء عن القوى العاملة الأجنبية, ومن يدع ذلك يغالط الواقع, ولكن الذي نقوله إن البلد فيه متسع لنا ولهم, وإن الأقربين أولى بالمعروف, وإن هناك مئات الآلاف من فرص العمل التي ينبغي، بل يجب قصرها على أبناء الوطن, وعلى من يشكك في ذلك أن يتجول على المحلات التجارية, صغيرها وكبيرها, ويدخل دهاليز الشركات والمؤسسات والهيئات, ليلحظ أن معظم العاملين في وظائف البيع, والخطوط الأولى في مواقع الاستقبال والسكرتارية والأعمال المساندة, ليسوا من أبناء الوطن, ولو جرب بعضكم, أيها القراء أن يصلي الظهر في مصليات بعضها لهاله الفرق الشاسع بين حاسري الرؤوس وغيرهم!
يحدث كل هذا ونحن ما زلنا نصارع ثم نتراجع, ونقدم ثم نتأخر, في سبيل تحقيق نسبة 30 في المائة فقط!! في بعض القطاعات وليس كلها, إلى درجة أننا كرهنا رؤية هذه النسبة من كثرة ما رأيناها في اكتتابات الأسهم!! وهو ما يبدو أنه الذي دفع وزارة العمل إلى البدء في تغييرها أخيرا, في بعض القطاعات اعترافا بانتصار المقاومين والمناوئين للحق الوطني, ولكن نزولا وليس صعودا, أليست هذه سنة النزول في المؤشرات؟!

ماذا نقول بعد؟!
إذا كنا لا نعي حجم البطالة ونسبتها على الوجه الصحيح, وليس هناك إحصاءات دقيقة, وأن الأمر في مجمله تقديرات سطحية تحاول الجهات المسؤولة التحفظ فيها بشدة خوفا من مواجهتها؟! وإذا كان هناك أكثر من مليون فتاة يبحثن عن العمل, كما صرح بذلك مدير مكتب العمل في جدة أخيرا (صحيفة "الوطن" 27/3/1427هـ), فكم من الشباب مثلهن؟ ألم أقل لكم إن العدد يتضاعف بتزايد الخريجين والخارجين من سلك التعليم؟! ولن يجرؤ أحد على إعلان العدد الحقيقي؟!
التساؤل الأخير, وما أكثر تساؤلاتي التي ألمحها على وجوه الكثيرين, هو متى يكون لدينا استراتيجية أو خطة معلنة وملتزم بها للقضاء على البطالة خلال فترة محددة, في بلد يتخطى فيه الدخل كل الأحلام والتوقعات, ويفترض, بالتالي, ألا يكون فيها عاطل واحد؟ متى؟

والله من وراء القصد

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي