الأسهم .. والذي يأتي ولا يأتي
تعمدت إيراد العبارة أعلاه "الذي يأتي ولا يأتي" وهي عنوان ديوان للشاعر العراقي الراحل الكبير عبد الوهاب البياتي وذلك لكي أوضح حجم المفارقة وشمولها التي جعلت الجميع يتحدث عن الأسهم أو يكتب عنها منظرا ومحللا وطارحا رأيه باعتداد مرحلي كحالتي ممن ليس مختصا بالاقتصاد ولا بما يمت له بصلة.
فقد صارت الكتابة عن الأسهم والحديث فيها "ملطشة"، كل يمارس عليها فحولته أو فحولتها وصار بالإمكان في عصر هيئة سوق المال السعودية أن ينزل الشعراء من أبراجهم الحالمة أو التعيسة وأن يهرول الحكواتية والروائيون والنقاد والمسرحيون والفلاسفة والفنانون وباعة الفول المدمس للخوض في شؤون الاقتصاد والأسهم رغما عن أنف "آدم سميث" و"كنز" و"هوبز" و"ماركس" ورغما عن جميع أساتذة الاقتصاد والمحاسبة والمال والتسويق في جامعات الدنيا كلها.
ولأن الأمر غدا كذلك فقد قررت بملء إرادتي وقواي العقلية النزول للميدان وجها لوجه مع أعتى أساتذة الاقتصاد والمال والأعمال, لماذا؟!
أولا .. لكيلا تبور بضاعتي فالناس لم يعودوا يلتفتون لقراءة أية مقالة ما لم يلصق فوقها في العنوان الكلمة السحرية "الأسهم" فقد غدت هذه الكلمة طعما تتهافت الأفواه على عضه حتى لو عض عليها. وثانيا لأني بحكم عملي في هذه الصحيفة وبحكم أنني مواطن أدركته صرعة عصر هيئة سوق المال وحاصره طوفان الحديث عن الأسهم من الأفواه والفضائيات والصحف ومن كل حدب وصوب. أصبحت في وضع جدنا الشاعر الذي قال: "إذا غرقت فما خوفي من البلل!!" وثالثا, وهذا هو الأكثر أهمية والدافع الأساسي لكتابة هذه المقالة, هو أنني أصبت بالدوار على مدى الشهرين السابقين، خصوصا بعد أول خميس أسود, ثم الانهيار الأشد سوادا, لكثرة ما سمعت أو قرأت لمحللين وكتاب وهم يربطون ربطا قسريا بين حالة اقتصادنا وسوق الأسهم ـ يفسرون هذا بذاك مؤكدين على أنهم لا يجدون عذرا لانهيار سوق الأسهم طالما أن حجم السيولة غزير في بلادنا وطالما أن اقتصادنا ينمو نموا عاليا وطالما أسعار النفط مرتفعة, يتم تكرار هذا القول صبحا ومساء بصيغ وكلمات مختلفة الأمر الذي أصبح يشكل لدى المتلقي أزمة نفسية تتعمق إثر كل مرة يقال فيها مثل هذا التبرير حتى إن معظمهم يتنهد متبرما: "أجل .. وش طاعون الأسهم؟!".
أيها السادة والسيدات .. ينبغي فك الارتباط بين معزوفة السيولة الغزيرة والنمو الاقتصادي العالي وأسعار النفط المرتفعة, وبين السوق المالية فما بين تلك وهذه ليس عقد زواج كاثوليكي لا ينفصم فليس بالضرورة أن تزدهر سوق الأسهم فقط لأن تلك مزدهرة, المسألة ليست سياقا ميكانيكيا فلا الأداء الاقتصادي المرتفع ولا الأسعار العالية للنفط ولا السيولة الغزيرة أسس بنيوية أو أدوات رئيسية أو مرتكزات للسوق المالية, وإنما هي عناصر قوة في الثروة الوطنية. بينما السوق كيان مستقل: هيكلية إدارية, قوى بشرية, لجان, قوانين وأنظمة, آلية عمل, مهارة أداء وبنية تحتية تقنية وغيرها واختلال عنصر من هذه العناصر يجعلها سوقا غير محصنة, عرضة للانتكاسات والتخبطات.
ومهما كان الاقتصاد قويا والسيولة غزيرة وأسعار النفط مرتفعة فلن تفلح, فرادى أو مجتمعة, في مداواة علل السوق, بل العكس هو الصحيح, فالسوق العليلة تمثل خطرا داهما على الاقتصاد الوطني, لأنها تصبح أشبه بالمصائد الرملية كل حركة تنذر بالغوص أكثر ولا سبيل سوى الثبات بانتباه إلى أن تتدخل فرق الإنقاذ, وهذا هو ما تحتاجه سوقنا المالية: نظام للإنذار المبكر يجنبها السير في اتجاه المصائد القاتلة, إلى جانب الأخذ بالاعتبار كل ما طرح في وسائل الإعلام عن السوق مما تحتاجه لدعم أدائها وجعلها منيعة آمنة ضد كل احتمالات الخطر المؤسسية والبشرية والتي كان من المفترض أن تكون قد ولدت مع الهيئة استثمارا للخبرة العالمية الطويلة في هذا المجال والبداية من حيث انتهى الآخرون!!
ومرة أخرى, ومع تقديري واحترامي للجميع ينبغي فك الارتباط الميكانيكي بين سوقنا المالية وبين اقتصادنا القوي وسيولتنا الغزيرة وأسعار النفط المرتفعة, فهذه عناصر رائعة لبيئة استثمارية جديرة بالتفوق, إذا ما أحسنت مؤسساتنا العامة والخاصة القيام بأدوارها بكفاءة وفي مقدمتها هيئة السوق المالية السعودية. فهل يا ترى سوف يأتي "الذي يأتي ولا يأتي؟" وتستعيد سوقنا عافيتها بيدها لا بيد عمرو؟ أم أننا مازلنا مصرين ـ نظريا طبعا ـ على أن تسير أسعار النفط المرتفعة على قدمين ونمو اقتصادنا العالي على قدمين وسيولتنا الغزيرة على قدمين وتأتي لتتولى إصلاح حال سوقنا المالية؟ وهذا لن يحدث إلا إذا باض الديك ودر التيس حليبا!!