وقوف السيارات في الشوارع .. فوضى ومخالفات واضحة
من يتأمل طريقة إيقاف الناس سياراتهم في الشوارع, وأمام المراكز التجارية والدوائر الحكومية والمستشفيات وحتى المساجد وصالات الأفراح وغيرها من المرافق التي يقصدها الناس عادة باستمرار لقضاء حاجاتهم, سوف يلاحظ أن ثقافة الوقوف وآدابه والاعتراف بحق الآخر والالتزام بقواعد التهذيب ومقتضيات الأنظمة والتعليمات كلها مغيبة من حوافظ ثقافتنا العامة وسلوكنا في حياتنا اليومية. ومن مظاهر ذلك ما يجري من فوضى واضطراب وتعديات تتمثل في الوقوف المزدوج ووسط الشوارع وعلى الأرصفة, وفي أملاك الغير, وأمام بوابات المنازل والأماكن الممنوع الوقوف فيها بعامة. بحيث لا يحلو للكثير منا سوى الإصرار على الوقوف ملاصقا للمكان الذي يريد, بصرف النظر عما يسببه ذلك من إيذاء للآخرين, وتعطيل أعمالهم وإعاقة وعرقلة لانسياب الحركة المرورية.
ومن يتأمل أكثر في الأسباب العامة يجد أنها لا تكمن في قلة المواقف أو ضيق الطرق والشوارع, أكثر مما تكمن في ضيق النفوس التي جبلت على حب العجلة والأنانية, وحب الذات والتمرد على آداب السلوك العام وإنكار حق الآخر, فمن حيث الشوارع فالكل يلاحظ, خاصة من أتيحت له الفرصة لرؤية مدن أخرى خارج المملكة, أن معظم المدن لدينا تتصف باتساع الشوارع بما يكفي لوقوف السيارات على جوانبها دون أن يعوق ذلك حركة المرور, ورغم ذلك فإن المظهر الفوضوي لطريقة وقوف الناس يتأكد من خلال مظاهر عدة, منها:
1 ـ انظروا مثلا إلى طريقة وقوف الناس أمام المساجد لتلاحظوا تكدس السيارات وإغلاق طريق الدخول والخروج أمام المصلين, ناهيك عمن يريد عبور الشارع وكأن من يقصد المسجد, خاصة من يأتي متأخرا يحق له الوقوف كيفما أراد, المهم أن يكون ذلك في أقرب مكان للباب, متجاهلا أن إيقاف السيارة في المكان الصحيح والمشي إلى المسجد بضع خطوات فيه مضاعفة للحسنات, فضلا عن الفائدة الصحية للمشي.
2 ـ يلاحظ أن أصحاب بعض المباني يحولون دون استخدام المواقف عندما تكون تلك المواقف أسفل المباني, وأن بعضهم يقوم بتحويلها إلى استخدامات أخرى كمكاتب أو مستودعات أو ورش عمل, خاصة بعد أن يكونوا قد حصلوا على رخص الإنجاز وقاموا بتوصيل الخدمات إليها, وأمنوا بعد ذلك أي عقوبة يمكن أن تطبق عليهم.
3 ـ الملاحظة الأخرى التي تسهم في أزمة المواقف وإرباك حركة المرور هي قيام بعض الإدارات الحكومية, بل الوزارات باستئجار مبان على الشوارع العامة مقار لها, دون أي دراسة أو اعتبار لما يسببه وجودها من مشكلات, خاصة إذا كانت من الجهات الحكومية ذات العلاقة المباشرة بالمراجعين, حيث تغص الشوارع والطرق المحيطة بالمقر بالسيارات وتغلق البيوت على أصحابها وتحرم المتاجر المجاورة من المتسوقين إلى حد يتعرض بعضها للخسارة والتصفية والارتحال, ويتضرر بالتالي أصحاب العقارات المجاورة من عدم إقبال المستأجرين عليها وبقائها خالية فترات طويلة. والغريب أن تلك الجهات تختار مقارها في أماكن مزدحمة أصلا بكثافة المباني وحركة الناس والمرور في أواسط المدن والأحياء, في حين أن الأولى أن تتوزع مقار الجهات الحكومية على أطراف المدن والشوارع التي يقل فيها الازدحام ويسهل وصول المراجعين إليها دون تعرضهم للزحام والانتظار وضياع الوقت.
4 ـ لم أر في أي مدينة أخرى زرتها خارج المملكة ظاهرة كالتي تحدث لدينا, وهي الوقوف على الأرصفة المخصصة للمشاة عندما لا يجد البعض منا مواقف لسياراتهم مستغلين غياب الرقابة وتطبيق الجزاءات وقدرة سياراتهم على القفز, بحيث أصبحت هذه الظاهرة ملازمة لمظهر الحركة المرورية لدينا, ويحسب لنا الفضل في تعليمها السائقين الأجانب, الذين استفادوا أيضا من براعتنا في ارتكاب المخالفات, حتى غدا الكثير منهم يسابق شبابنا في التمرد والخروج على قواعد المرور وآدابه, وأنى لهم أن يلتزموا بشيء منها وهم لا يعرفونها أصلا, ولم يجدوا من يرشدهم أو يقسرهم على تعلمها والالتزام بها؟
5 ـ لا يحلو للغالبية منا سوى الوقوف أمام المكان الذي يقصده, ويصر على ذلك حتى لو وقف في وسط الشارع, أو أغلق الطريق على غيره, وحتى لو كان سيجد موقفا على بعد خطوات من المكان, مغيبا عن ذهنه الفائدة البدنية والذهنية التي سيكسبها من المشي. والحقيقة أن مثل هذه الثقافة, ثقافة العجلة والأنانية والتمرد, نراها بارزة في تصرفاتنا اليومية, وعند التأمل نجد أن بعضها متسلل من ثقافتنا العامة وتربيتنا التي لم تسهم في إطفاء هذه النزعات أو محوها من سجل ثقافتنا العامة!
غياب العقوبة سبب المشكلة
لا شك أن غياب الجزاءات والعقوبات، أيا كانت، يعد سببا رئيسيا لما نراه من فوضى، لأن من أمن العقوبة أساء التصرف، كما يقال، ولو كان من يقف في مكان خاطئ يظن أن ذلك سيكلفه غرامة مهما كان مقدارها، فإنه سوف يفكر ويبحث عن مكان آمن يوقف فيه سيارته قبل أن يتركها، والدليل على ذلك أننا عندما نكون خارج المملكة بسياراتنا فإننا أكثر ما نكون انضباطا والتزاما بقوانين المرور، ومنها أسلوب الوقوف ومكانه، وكل منا يتفقد سيارته قبل أن يتركها ليتأكد من صحة الوقوف، ولكننا لا نلتزم بشيء من ذلك عندما نكون في بلادنا التي هي أجدر بالالتزام والاحترام، وما ذلك إلا بسبب ضعف ثقافة الوعي وغياب الرادع.
والغريب أن ما يحصل من تجاوز صارخ على حق الطريق يتم غالبه تحت سمع وبصر جهاز المرور بكل رجاله الذين نراهم أحيانا يقفون ويشاهدون ما يجري من قفز على الأرصفة، وسد لمنافذ الطريق، وكأن الأمر لا يعنيهم، أو يتسبب في عرقلة وإعاقة عملهم!!
أتذكر مرة عندما كنا مجموعة من الطلبة في الولايات المتحدة، كنا نذهب للتبضع في عطلة نهاية الأسبوع من متجر عرف في أوساط الطلبة ترخص أسعاره، ورغم وجود مواقف للسيارات أمام المتجر بمقابل، إلا أننا كنا نتحاشى الوقوف فيها لتوفير المقابل، ونبحث عن زوايا حول المكان نوقف فيها سياراتنا بعيدا عن أعين رجال المرور (البوليس) كما نظن، وعندما نخرج من المتجر كنا نتفقد السيارات ونضحك على صاحب أول سيارة نجد أنها تحمل قسيمة مخالفة الوقوف، لنفاجأ ببقية السيارات تحمل القسيمة نفسها التي تكلف أضعاف أجرة الموقف، وقد تعلمنا من ذلك الكثير، وأوله التسابق إلى المواقف ذات الأجرة خوفا من دفع ما هو أكثر!!
لنفكر في تزايد أعداد السيارات لدينا التي تزيد بما يقارب نصف مليون سيارة سنويا ونتخيل ما سيكون عليه الوضع في المستقبل من ازدحام وتعقد للحركة المرورية وانعكاساتها على وقت الناس وأعصابهم وعلاقاتهم، وما يسببه الوقوف الخاطئ من مضاعفة لحجم المشكلة، وإيذاء للناس، واختزال لسعة الشوارع، لنلمس أن من الضروري اهتمام إدارات المرور بمشكلة الوقوف بما يتماشى مع مسؤوليتها، ويحسن المظهر العام للمدن، وتعويد الناس على النظام.
وهناك عدد من الوسائل المتاحة التي سوف تسهم في تصحيح الوضع منها:
1 ـ إعداد حملة برامج توعية للناس عن أضرار الوقوف الخاطئ وما ينطوي عليه من مخالفة، ويسببه من تعطيل وإرباك، وزيادة في الحوادث، ويمكن استخدام البرامج الهادفة في الإذاعة والتلفزيون، والإعلانات في الصحف والمطويات، كوسائل لتنفيذ برامج الحملة، التي يمكن أن تمتد لمدة شهر تبدأ بعده المحاسبة وتطبيق الجزاءات.
2 ـ تتم المتابعة بعد ذلك من قبل فئة مخصصة لهذا الغرض من رجال المرور الذين يستخدمون الدراجات النارية، أسوة بما هو معمول به في الدول الأخرى نظرا لقدرة الدراجات على الحركة والوصول إلى كل الأماكن، وتغطية أطول مساحة ممكنة، على أن يحمل كل منهم دفتر قسائم مخالفات يحرر منه قسيمة لكل سيارة مخالفة تتضمن المعلومات اللازمة مثل المكان والوقت والتاريخ ومن حرر المخالفة، على أن تحمل تلك القسائم في الجهة الخلفية منها عبارات تعبر عن أسف رجل المرور لاضطراره لتحرير المخالفة، رغم التوعية التي سبقتها، وأمله أن تكون آخر مخالفة تسجل على السيارة، ومثل هذه العبارات سيسهم كثيرا في استمرار التوعية، والحد من تكرار المخالفات.
إنني واثق من نجاح هذا الأسلوب مثلما نجح المرور أيام التوعية بأهمية حزام الأمان، ومثلما نجح أخيرا في ضبط مخالفات السرعة التي تطلبت عناء وجهدا أكثر مما تتطلبه الحملة على مخالفات الوقوف.
والله من وراء القصد.