قبس من دفتر النشوة
نحن مدينون لجدنا الذي قال: "البلاغة هي السهل الممتنع" وفي تراثنا الشعري، هناك كوكبة من الشعراء اخترقوا حواجز اللغة واختطفوا جمر الجن ورجفة الزلازل، وأودعوها في كلماتهم التي كلما قرأناها منحتنا أجنحة للروح وخمرة في الرأس فإذا نحن مجللين بالنشوة ودوار الأعالي.
هل تريدون قبساً من دفتر النشوة هذا؟ ما رأيكم بصحبة جدنا المتنبي في تعامله مع الدهر أو الزمن، وهما وجهان لعملة واحدة. خذوا قوله:
أريد من زمني "ذا" أن يبلغني
ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
أليس هذا جموح أسطوري؟ ومطلب غريب يسعى إليه هذا الشاعر الجميل البجاحة؟ كيف يريد من الزمن أن يلبي له مطلباً لا يستطيع الزمن أن يحققه لنفسه؟ يجعل المتنبي من الزمن وسيلة لطموحه اللانهائي. مستغنيا به عن الخلائق كلها: سلاطين, عظماء, فرسان, أثرياء وأصحاب قدرات خاصة، ليطلب منه مستحيلا يتجاوز قدرة البشر ولا يقوى حتى الزمن نفسه على بلوغه!!
في موقف آخر، أراد أبو الطيب المتنبي أن يبرهن على شجاعته الفائقة وقدرته على التحمل والصبر فلجأ إلى الدهر أيضا .. فقال:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر
وحيداً وما قولي "كذا" ومعي الصبر
خطورة هذا البيت لا تكمن في تخمين قوة الفوارس وعدد الخيل التي كان المتنبي يطاعنها بل الخطورة في تصور أولئك الفوارس الذين هم من نوع لا قبل لأحد بهم.. فما دام أن الدهر أحد أولئك الفرسان فما بالنا بالآخرين. ألم يقل "من فوارسها الدهر"؟!
وفوق ذلك ونحن في دوامة اندلاع الصور والأخيلة عن ميدان المعركة الرهيب، يباغتنا المتنبي في آخر البيت بصاعقة تنفجر بين أيدينا، بقوله إنه علاوة على مطاعنته لأولئك الفرسان الخارقين فقد كان بلغ في رباطة جأشه حدا جعل "الصبر" نفسه يلوذ به.. ألم يقل: "ومعي الصبر"؟! كما لو أن الصبر لم يكن صابراً إلا لأنه كان "مع" المتنبي؟ أليست خطيرة هذه الـ "مع" مثلماً كانت خطيرة تلك الـ "من" في قوله "من فوارسه الدهر"؟
هل أزيدكم واحدة أخرى من تجلياته؟ .. دونكم قوله:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
هل رأيتم جرأة كهذه؟ يستخدم المتنبي "الدهر" كما لو كان هو صاحب المنة على الدهر بتوظيفه واحدا من رواة شعره إضافة إلى غيره من رواة دهاة خالدين لا نعرفهم, تماما كما جعل الدهر واحدا من الفوارس كما سلف.
أكثر من هذا فشطر البيت الأخير "إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا" يرسم في خيالنا صورة عن الدهر وكأنه كائن خرافي واقف، متلهف على أهبة الاستعداد، كله آذان صاغية ليلتقط أي نبسة من شفة المتنبي، يذيعها في التو واللحظة في أسماع الدنيا.
كيف تأتى للمتنبي أن يحرض اللغة على نفسها لتعطي ما ليس فيها؟ لو قلنا إن ذلك يرجع لموهبته، ثقافته، تجربته وخبرته في الحياة فإننا لا نقول شيئاً ذا بال ولا نقدم رأيا جديداً لأنه قول ينطبق على شعراء ومفكرين كُثر.
إن اجتياز المتنبي للبرزخ المرصود بمحاذير ما يجب وما لا يجب ومداهمة باب الكنز المحظور، فتح له مغارة الدهشة والعجاب على واسع مصراعيها فتدافع نحوه خزنتها، سكبوا في راحتيه ماء الذهب واكسير الخلود وملأوا جيوبه جواهر ونجوما. ولو سألنا ماذا كانت وسيلته لاجتياز البرزخ؟ فلن تكون غير تلك الكلمة السحرية التي نرددها لفظا لكننا نغلق دونها الأبواب وهي "التأمل" أداة صنع الخوارق التي نعمى عنها وهي أحياناً عند أخمص القدمين. وقد كان جدنا المتنبي عملاقاً فذا في التأمل لذلك ملأ الدنيا وشغل الناس!!