الحلقة الأولى: (خروف برأسه!)
في رحلة الشيخ الأديب علي الطنطاوي إلى الحجاز- سنة 1353هـ - يصف في كتابه الذكريات (3/80) وجبة غداء دعي إليها في بلدة القريات, بعد أيام حافلة بالضياع والتعب والنصب, مع ثلة من رفقاء السفر, فيقول: "وجئنا الظهر للغداء, فمدوا سماطاً على الأرض, ووضعوا عليه قصعة هائلة، كان يحملها اثنان، وقد ملئت أرزاً, وألقي فوق الأرز خروف كامل برأسه، نعم برأسه! كأنهم - والله أعلم - خافوا أن نحسبه دباً أو ذئباً أو قطاً كبيراً، فجاءوا بالرأس دليلاً قاطعاً على أنه خروف ابن خروف، وأنه من أمة الضأن، لا من شعب الذئاب والثعالب! كذلك خيل إلي، ثم عرفت أن الرأس يترك لينال الضيف من أطايبه، ومن رجع إلى ما كتب الجاحظ علم أن الطيبات في الرأس, فالمخ له طعم لا يشبه طعم اللسان.. وكان الخروف مفتوح العينين، فتوهمت أنه ينظر إلينا، وكان ناعس الطرف، فتذكرت ما قال الشعراء في العيون النواعس، ثم رأيت أني إن استرسلت في أوهامي وخيالاتي بقيت جائعاً؛ لأن القوم أحدقوا بالقصعة، وشمروا عن سواعدهم، ونظروا شزراً فعل من يقدم على معركة، فخشيت أن يذهبوا باللحم، ويبقى لي الوهم، والرز بلا لحم، فأتغدى خيالاً وأدباً، ويأكلوا هم الخروف! فنسيت عينه المفتوحة, وطرفه الناعس، واعتذرت إليه، وأقبلت أخوض المعركة, ولكن كيف أخوضها بلا سلاح - بلا ملعقة - إن القوم يأخذون قبضة الرز واللحم فيديرونها حتى تصير كالكرة الصغيرة، ثم يقذفونها في حلوقهم، فتقع في المرمى، وتصيب الهدف! فحاولت أن أعمل مثلهم، فانفلت الرز من بين أصابعي، وملأ السمن كفي، فرفعته إلى فمي، فسال على ثيابي، فجعلت أعمل على إدخاله فمي، فدخلت فيه أصابعي كلها حتى كدت أختنق, وما دخل فيه الرز ولا اللحم! وغسل وجهي السمن حتى صار يلمع, لا يضيء بالتقوى ولكن بالدهن ! وأني لفي هذه المحنة إذ أحسست بيد تمس كتفي، فظننته يريد أن أفسح له ففسحت، وإذا به يزيد في إكرامي, فيأتي بطبق من خالص السمن العربي، فيصبه على الرز بين يدي! فقمت وعيني إلى الطعام تملؤها الشهوة إليه، وبطني فارغ تزقزق عصافيره تطلب العودة إليه ( كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول) "أهـ .
هكذا يصف الشيخ الطنطاوي بأسلوبه الماتع الطريف صورة من صور الكرم في جزيرتنا العربية، وهي صورة حاضرة ولا تزال في مواطن من جزيرة العرب، إلا أن صورة الكرم العربية هذه، دخل عليها بعض التغيير، وتسلل إليها نوع من التطوير، ولاسيما في ولائمنا الرسمية، وحفلاتنا الموسمية، وذلك من خلال استئجارنا لأفخم القصور والفنادق عند إقامتنا للولائم والحفلات، وبتنافسنا في عرض أنواع المأكولات والمشروبات، بأصنافها المختلفة، وأنواعها المتعددة! وباستعمالنا للشوكات والملاعق والسكاكين، عوضاً عن مباشرة الأكل بأيدينا التي خلقها الله تعالى (ولا تثريب في هذا بطبيعة الحال) وربما زاد التطور عن الحد، ليقوم الضيف بتحصيل طعامه بنفسه، وفي تقديري أن كرم الأمس كان أمثل وأجدى من كرم اليوم، فبالأمس القريب كان الطعام يقدم إلى الضيف, ويقرب إليه على معنى (فقربه إليهم)، كل ذلك حباً في المودة والإكرام، وإمعاناً في التوقير والاحترام، وربما (غلا) المضيف في الإكرام إلى حد عدم الجلوس مع الضيف، وتركه على المائدة وحيداً، يعاني الوحدة، ويقاسي الوحشة!
أما حاضر اليوم، فقد أفرز عصر التحضر ( أو التقليد إن شئت ) أسلوباً جديداً في تقديم طعام الضيافة، وذلك من خلال ما يسمى بـ (البوفيه) وهذا الأسلوب له إيجابياته، حيث يمكن الضيف من انتقاء طعامه بحريته ومحض اختياره، كما أنه أحياناً يوفر على المضيف كثيراً من المبالغ الباهظة فيما لو اختار الأسلوب التقليدي بشراء الخراف ذات الرؤوس، إلا أن هذا الأسلوب (المتحضر) يصلح في المناسبات الصغيرة، لا الكبيرة؛ لأنه يلجأ الضيف إلى الانتظار واقفاً دقائق عدة، في طابور طويل قد يقف في آخره، ولا يرى أوله! وربما اضطر إلى البحث طويلاً عن صحنه وشوكته وملعقته، فيفتش عن طعامه وصحونه بجهده وكد جبينه، وربما يطول الوقوف لدرجة مملة، كما يمل مشتري الخبز من طول الوقوف والانتظار حين ينتظر دوره ليتأبط خبزه إلى منزله, أو كما يقف بعض الشحاذين اليوم بأبواب الأغنياء، ينتظرون حفنة من مال، أو قبضة من طعام!
وإذا كنا نرى كثيراً من المضيفين يخصون كبار الضيوف بمائدة خاصة، إكراماً لهم، ونأياً بهم عن الإحراج والغربلة، فهلا كان جميع الضيوف سواسية في التكريم والتقدير؟
وإن مما يزيد الطين بلة، أن الضيف حين يبدأ في اختيار طعامه، يأتي من يقف على رأسه ليلتقط له صورة بعدسة (الفيديو) وهو ينتقي الطعام ويضعه في صحنه، وكذا حين يستوي جالساً على كرسيه، ثم حين يدخل الطعام في فمه، ثم وهو يلوك اللقمة بأسنانه، ويطعمها بلسانه، ثم حين يبتلعها! فيحرج الضيف مرة أخرى، كل ذلك من أجل أن توثق ليلة العرس لصالح العريسين! وكم رأيت من متأفف من هذا الأسلوب الذي لا يمت إلى الأدب بصلة؛ حيث تلتقط عدسة (الكاميرا) صوراً ومشاهد لا يرضاها كثير من الأضياف.
ومما يميز كرم الأمس أن الداعي يعم بالضيافة الكبير والصغير، والغني والفقير، أما اليوم فإنه يخص بالدعوة الكبار من الرجال والنساء، والأغنياء منهم دون الفقراء، وهذا ما ألمح إليه نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: ( شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها ). وعادة ما يخص الأطفال في بطاقة العرس بدعوة صالحة أن تقر أعينهم بنوم هادئ، ولو كان النوم في بيت موحش، بعيداً عن عين الوالد، وحضن الوالدة!!
ويتعدى الكرم مداه في ولائم الأعراس هذه الأيام، حتى يصل إلى حد الإسراف بموائد الطعام، وربما كان مآل هذه الموائد أماكن النفايات - عياذاً بالله - حتى تحول الكرم إلى مجرد حب المباهاة، ولفت الأنظار! ويزيد الأمر سوءاً أن يكون هذا الإسراف والبذخ في الوقت الذي لا يجد فيه كثير من إخواننا المسلمين شربة ماء تبل رمقهم، ولا لقمة غداء أو عشاء تسد جوعتهم، وفي الوقت الذي يحاصر فيه إخواننا في فلسطين، ويمنعون فيه عن أبسط مقومات العيش، على مرأى ومسمع من عالم يدعي الدفاع عن حقوق الحيوان، وينتهك حقوق الإنسان!
والسؤال الذي يطرح نفسه : لماذا لا نوسع دائرة الكرم الحاتمي، فنوفر بعض المال الذي ننفقه في هذه الأعراس؛ لنكفكف به عبرة طفل أو يتيم، أو نسد به جوعة أرملة أو مسكين، أو نقضي به دين معسر أو غريم, فنبلغ بكرمنا كل المسلمين، وندفع بأموالنا حاجة الفقراء والمساكين، وبهذا نقوم بواجبنا تجاه إخواننا المستضعفين، ونترجم أقوالنا ومشاعرنا على أرض الواقع، وأهم من ذلك كله ألا نكون شركاء في هذه الجريمة البشعة التي تمارس ضد شعب مسلم أعزل، يصيح ويستغيث، صباحاً ومساء!
ولئن كانت ولائمنا يراها الناس، ويتحدثون عنها يوماً أو بعض يوم، فهذا البذل والعطاء لإخواننا المسلمين إن لم يره الناس ويتحدثوا عنه، فإنه يراه رب الناس، الذي أغدق علينا بنعمه، وأمدنا بواسع فضله ( ولئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد). وحين نشكر الله تعالى على نعمه، فإنا نحفظها من الزوال، ونجد ثوابها في الآخرة أحوج ما نكون إليها، والله من وراء القصد.