الرشوة داء خطير ومرض فتاك وممارسة غير مشروعة
تعاني المجتمعات المسلمة من تفشي داء الرشوة وتبذل دولتنا الرشيدة جهودا كبيرة في التحذير منها والكتابة عنها ولاسيما أن من شر ما تصاب به الأمم في أهلها وبنيها أن تمتد أيدي فئات من الناس إلى تناول ما ليس بحق. فصاحب الحق عندهم لا ينال حقه إلا إذا قدم مالاً، وذو الظلامة فيهم لا ترفع مظلمته إلا إذا دفع رشوة وبفشوِّ الرشوة تصاب مصالح الأمة بالشلل، وعقول النابغة بالقصم، ومواهب المفكرين بالجمود، وجهود العاملين بالفتور وعزائم المجدين بالخور.وقد حرصنا في هذا التحقيق أن نتناول هذه القضية لتوجيه الناس إلى ما هو خير لهم في دنياهم وأخرتهم .
وقد تناولنا هذه القضية من عدة محاور منها أسباب تفشي هذه الظاهرة والتحذير منها، والمحور الثاني توضيح بعض مسمياتها وصفاتها، والمحور الثالث يتحدث عن علاج هذه المشكلة.
وقد تحدث في البداية إبراهيم الدوسري موظف فقال: إن هذه الظاهرة دون شك موجودة وسببها حرص بعض الناس على الحصول على المال بأي طريقة ولا يهم أن تكون هذه الطريقة محرمة بالنسبة له خصوصا أن الدولة لم تقصر في توجيه الجهات المختصة بتحذير الجميع من مغبة الوقوع فيها وتبذل الكثير من أجل ذلك وكذلك بعض الجهات ذات الاختصاص اهتمت بالتوعية والتوجيه، وإن شاء الله يستفيد بعض الذين يقعون فيها من هذه التوجيهات الكريمة. ومن جهته قال متعب الشمري إننا كمسلمين لابد أن نعلم خطورة هذا العمل الذميم والبعد عنه ونحن ولله الحمد نعيش في نعمة عظيمة وتمسكنا بأمور ديننا والبعد عن ما يخالف أمر الله هو مطلوب من الجميع خصوصا قضية مثل موضوع الرشوة فنسأل الله الهداية لمن يقعون فيها، وقال الموظف المتقاعد محمد عبد الرحيم إن الرشوة للأسف الشديد يمارسها بعض الذين لا يخافون الله وتأتي على حساب آخرين رضوا بهذا الفعل المحرم لتحقيق نجاحات دنيوية، فعلى كل من يمارس مثل هذا العمل المحرم أن يتقي الله ويبتعد عنه ونسأل الله أن يقينا شرها وأن يهدي ضال المسلمين .
الرأي الشرعي
ومن جهته أوضح الدكتور حسين آل الشيخ إمام وخطيب الحرم المدني أن الشريعة جاءت بكل المقومات الأساسية والركائز الأصيلة التي تحفظ مقاصد المسؤولية، وتدْرأ عنها أسباب الانحراف وعوامل الشر والفساد. ومن هذه المقومات وتلك الركائز النهيُ الأكيد والزجر الشديد عن جريمة الرشوة أخذاً وإعطاءً وتوسُّطاً.
ولعل مايتم القيام به من ممارسة الرشوة هو في الواقع مَغْضبة للرب ومَجْلبة للعذاب، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما: "لعن رسول الله الراشي والمرتشي"، رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح [1]. وفي المسند وغيره بسند حسن عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: "لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش"[2]. وتأسيساً على هذه الدلالات الصريحة ولما رواه الطبراني بسند جيد عن النبي أنه قال: "الراشي والمرتشي في النار" [3]، تأسيساً على ذلك قال أهل العلم كالذهبي وغيره: "إن الرشوة كبيرة من كبائر الذنوب".
وأضاف أن الرشوةُ أكلٌ للأموال بالباطل، وتناولٌ للسحت، يقول - جل وعلا -: "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" [البقرة: 188]، ويقول - سبحانه - في شأن اليهود: "سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـالُونَ لِلسُّحْتِ" [المائدة: 42]، يُروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: (بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشا ومهر الزانية) [4].
وهي داءٌ وبيل ومرض خطير، خطرُها على الأفراد عظيم، وفسادها للمجتمع كبير، فما يقع فيها امرؤ إلا ومُحِقت منه البركة في صحته ووقته ورزقه وعياله وعمره، وما تدنَّس بها أحد إلا وحُجبت دعوته، وذَهبت مروءته، وفسدت أخلاقه، ونُزع حياؤه، وساء منْبَته، في الحديث: "كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به" قيل: وما السحت؟ قال: "الرشوة في الحكم" رواه ابن جرير وغيره[5]. وفي المسند مرفوعاً وله شواهد: "ما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب"[6].
الرشوة ـ أيها الفضلاء ـ تُسبب الهلاك والخسران للمجتمعات، تفسدُ أحوالها، وتنشر الظلم فيها، بل ما تفشَّت في مجتمع إلا وغابت منه الفضيلة، وحلت فيه الرذيلة والكراهية والأحقاد، وما وقعت في أمة إلا وحلَّ فيها الغش محل النصيحة، والخيانةُ محلَّ الأمانة، والظلم محل العدل، والخوف محل الأمن. والرشوة في المجتمع دعوةٌ قبيحة لنشر الرذائل والفساد، وإطلاق العنان لرغبات النفوس، وانتشار الاختلاف والتزوير، واستغلال السلطة والتحايل على النظام، فتتعطل حينئذ مصالح المجتمع، ويسود فيه الشر والظلم، وينتشر بينه البُؤس والفقر والشقاء، في المسند مرفوعاً وله شواهد: "ما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب" [6].
وأبان فضيلته حقيقة الرشوة بقوله إنها كلُّ ما يدفعه المرء لمن تولَّى عملاً من أعمال المسلمين ليتوصَّل به إلى ما لا يحل له، وهي تأتي على صور كثيرة، من أعظمها ما يُعطى لإبطال حق، أو إحقاق باطل، أو لظلم أحدٍ من الناس. ومن صُورها دفع المال في مقابل قضاء مصلحةٍ يجب على المسؤول عنها قضاؤها من دون هذا المقابل، أو هي كما قال بعض أهل العلم: ما يؤخذ عمّا وجب على الشخص فعله. ومن صورها أيضاً من رشى ليُعْطى ما ليس له، أو ليدفع حقاً قد لزمه، أو رشى ليُفضَّل أو يقدَّم على غيره من المستحقين.
من فضائل الأعمال الشفاعاتُ الحسنة
من فضائل الأعمال الشفاعاتُ الحسنة بالتوسط فيما يترتب عليه الخير من دفع ضر أو جلب نفع ابتغاءَ وجه الله، روى البخاري عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء"[10]. ولكن من شفع شفاعة حسنة حرُم عليه قبول الهدية عن هذه الشفاعة، جاء في سنن أبي داود بسند حسن عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هديةً عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا"[11]، قال ابن مسعود - رضي الله عنه: (السحت أن تطلب لأخيك الحاجة فتُقضَى، فيهدى إليك هديةً فتقبلها منه)[12].
وشدد على أن الرشوةُ في الإسلام محرَّمةٌ بأي صورة كانت، وبأي اسم سُمِّيت، سواء سُميت هديةً أو مكافأة أو تركةً، فالأسماء لا تغيِّر من الحقائق شيئاً، والعبرة للحقائق والمعاني لا للألفاظ والمباني. ومن المقررات في شريعة محمد أن هدايا العمَّال غلول، والمراد بالعمَّال كل من تولى عملاً للمسلمين، وهذا يشمل السلطان ونوَّابه وموظفيه، أياً كانت مسؤولياتهم، ومهما اختلفت مراتبهم وتنوعت درجاتهم، روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: استعمل النبي رجلاً من الأزد، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي، فقام رسول الله على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أو لا؟! والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه" الحديث[7]، قال الخطابي - رحمه الله -: "في هذا بيان أن هدايا العمال سُحت، وأنه ليس سبيلها سبيل الهدايا المباحة، وإنما يُهدى إليه للمحاباة، وليخفِّف عن المُهدي، ويُسوِّغ له بعض الواجب عليه، [وهو خيانة منه، وبخس للحق الواجب عليه] استيفاؤه لأهله" انتهى[8]، وقال الشوكاني - رحمه الله -: "إن الهدايا التي تُهدى للقضاة ونحوهم هي نوعٌ من الرشوة؛ لأن المُهدي إذا لم يكن معتاداً للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض، وهو إما التقوِّي به على باطله، أو التوصل بهديته إلى حقه، والكل حرام"[9]، وقال غيرهما من أهل العلم: ويتعين على الحاكم ومن له ولاية تتعلق بأمور الناس ألا يقبل الهدية ممن لم يكن معتاداً الإهداء إليه قبل ولايته، فهي في المقام تُعتبر رشوة، انتهى.
أيها المسلمون، من فضائل الأعمال الشفاعاتُ الحسنة بالتوسط فيما يترتب عليه الخير من دفع ضر أو جلب نفع ابتغاءَ وجه الله، روى البخاري عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء"[10]. ولكن من شفع شفاعة حسنة حرُم عليه قبول الهدية عن هذه الشفاعة، جاء في سنن أبي داود بسند حسن عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هديةً عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا"[11]، قال ابن مسعود - رضي الله عنه: (السحت أن تطلب لأخيك الحاجة فتُقضَى، فيهدى إليك هديةً فتقبلها منه)[12].
جاء أن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - اشتهى التفاح فلم يجده في بيته، ولا ما يشتري به، فخرج فتلقاه غلمان بأطباق التفاح، فتناول واحدة فشمَّها، ثم ردَّ الأطباق، فقيل له في ذلك، فقال: لا حاجة لي فيها، فقيل له: ألم يكن رسول الله وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؟! قال: إنها لأولئك هدية، وهي للعمال بعدهم رشوة[13]. وأكد أنه بالرشوة تُهدَر الحقوق، وتُعطَّل المصالح، وبها يُقدَّم السفيه الخامل، ويُبعد المجدُّ العامل، فكم ضيَّعت من حق، وأهدرت من كرامة، ورفعت من لئيم، وأهانت من كريم. فاحذروها عباد الله، وكونوا حرباً على أهلها، وانشروا الخير بينكم، وكونوا من أهل البر والإحسان والفضل.
جريمة كبيرة
أكد الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء أن أخذ الرشوة من السحت ومن أشد الحرام ومن أخبث المكاسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "لعن الراشي والمرتشي ولعن الرائش" [رواه الإمام أحمد في مسنده] ـ وهو الساعي بينهما - واللعن يقتضي أن الرشوة كبيرة من أعظم كبائر الذنوب وهي من السحت والله جل وعلا قال في اليهود (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة: 42] قال تعالى "وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"، [البقرة: 188] وهذه الآية على أحد التفسيرين تعني في الرشوة وتحذر منها، فالرشوة حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين وهي كبيرة من كبائر الذنوب ومن أكل منها؛ فقد أكل سحتاً واستعمل حرامًا يؤثر على أخلاقه وعلى دينه وعلى سلوكه، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم "ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام؛ فأنّى يستجاب له" [رواه مسلم في صحيحه] وهذا حديث صحيح بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن أكل الحرام من الرشوة وغيرها؛ أنه يمنع قبول الدعاء وأن آكل الرشوة أو غيرها من الحرام لا يستجاب له دعاء وهذا خطر عظيم؛ لأن أحدًا لا يستغني عن الله عزّ وجلّ طرفة عين فإذا قطع الصلة بينه وبين الله؛ ورد دعاؤه؛ فما قيمة حياته؟ وأيضًا؛ الرشوة ما فشت في مجتمع؛ إلا وفشا فيه الفساد وفشا فيه الخلل وتشتت القلوب والإخلال بالأمن وضياع الحقوق وإهانة أهل الحق وتقديم أهل الباطل وهذا يحدث في المجتمع ضررًا بيّنًا؛ فالرشوة من أخبث المكاسب وأثرها على الفرد والمجتمع من أسوأ الآثار، فعلى المسلم أن يتوب إلى الله إذا كان يتعاطى شيئًا من ذلك وعلى من عافاه الله منها أن يسأل الله عز وجل الثبات على الحق وأن يديم عليه العافية؛ فإنها جريمة كبيرة ومعصية ظاهرة وهي غش لولاة الأمور وغش للنفس وغش للمجتمع، ويجب على ولاة الأمور أن ينكلوا ويردعوا المرتشين والراشين؛ كما لعنهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.