رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


ما بعد الميثاق الأخلاقي للتعليم

مقاعد الدراسة وباحات المدرسة هي البيئة التي تحتضن فلذات أكبادنا, وهي المعول عليها في أن يكون الناتج عنها من عقول مملوءة بالخير مفتوحة على الأمل, مشبعة برغبة للعمل والإبداع. المنهج الدراسي القويم كفيل بأن يدفع التلاميذ إلى هذه الاتجاهات ويشحنهم بسلام نفسي يعمق إحساسهم بالآخرين ويؤسس فيهم الألفة مع الاختلاف والتنوع.
المنهج حتما ليس هو فقط مقررات المواد العلمية والنظرية المخصصة لكل مرحلة دراسية، ولا هو فقط المعلم المنفذ لما هو موجود فيها من معلومات ومعارف. هذان بعدان أساسيان في العملية التعليمية، بيد أن التعليم لا يستقيم دون تربية, ففي لغتنا نقول: يعلم المعلم الطالب الدرس. أي يهيئ المعلم نفسية الطالب أولا ويفتح ذهنه وعقله للتعلم ثم تأتي المهمة الشاقة لبناء الإنسان والتأكد من أن عملية التعليم يتم إنجازها وفق مرتكزات سليمة قويمة تنأى بالطالب عن مكامن الخطر.
هذا لا يتم إلا بتجذير الحس الإنساني, مصدر صفاء النفس والسريرة ومنبع محبة الآخرين, لتغليب السماحة والتسامح في العلاقة معهم والنظر إليهم بندية دون تميز أو تعصب أو تعنصر أو احتقار أو إهانة بسبب أي نوع من الاختلاف.
هذا ما يبدو أن وزارة التربية والتعليم تعتزم ترجمته عمليا انطلاقا من ميثاق أخلاقيات التعليم العام الذي أعلن عنه وزير التربية والتعليم، والذي يهدف إلى تعزيز مكانة المعلم العلمية والاجتماعية وتعزيز انتمائه لرسالته ومهنته والارتقاء بها في تطوير المجتمع، إلى جانب ترسيخ مفهوم المواطنة لدى الطلاب وغرس أهمية مبدأ الاعتدال والتسامح والتعايش بعيدا عن الغلو والتطرف، ويدعو إلى إكساب الطالب المهارات العقلية والعلمية التي تنمي لديه التفكير العلمي الثاقب وحب التعلم الذاتي المستمر وممارسته، إلى جانب تمسكه بالقيم الأخلاقية والمثل العليا ونشرها بين الطلاب والناس كافة وشيوعها واحترامها ونشر الثقة المتبادلة والعمل بروح الفريق.
هذا الميثاق الأخلاقي أو ميثاق التسامح والاعتدال يشكل من حيث الطرح والمضمون خطابا حضاريا رائعا أفرزته بكل تأكيد الخبرة المكتسبة من تداعيات سطوة فكر الصحوة وفقه التشدد والغلو والتكفير التي غررت بكثيرين منا خصوصا صغار السن والمراهقين فانجرفوا إلى أعمال إرهابية عانت منها بلادنا وأسرهم وزملاؤهم على حد سواء.
آنذاك كبرت الأسئلة عن الأسباب واتجهت الأنظار إلى عدة مصادر للكارثة كان أحدها مناهج التعليم ومن يقومون عليه، حيث لم يخل المنهج مما يعتبر فكرا رثا ومصدرا للتعكير وسوء الفهم والمغاضبات ولم يخل سلك التعليم كذلك من معلمين خلطوا بين التربية وبين تعلقهم بآراء خاصة ضيقة كان البعض لا يتردد في تمريرها لتلامذته.
صدور الميثاق الأخلاقي للتعليم يظل خطوة تدخل في باب النوايا الحسنة مهما حوى من عناصر متوهجة أو أهداف وسياسات متألقة أو لنقل إنه إضافة نظرية وكراسة أو إصدار يضم إلى مطبوعات وزارة التربية والتعليم ولن يخرج عن أكداس من كتب الفضيلة ومدونات الإصلاح ومواثيق الشرف التي تعمر أرفف المكتبات والمخازن والمؤسسات ما لم يجد هذا الميثاق حراسة أخلاقية ووصاية مهنية لمتابعة مدى التقيد به من عدمه.
ولكيلا يصاب هذا الميثاق بالإغماء لا بد من مصالحة مكونات المقررات الدراسية من نصوص وصور مع العصر وإزالة التناقض عن أذهان الطلبة وإزاحة غشاوة النظري وتخسيس وزنه وتنظيف الفضاء التعليمي من التلوث المعرفي والمسلكي وإحداث قطيعة منهجية مع كل ما يحتقر العلم والعقل وما يقمع الرأي أو يخمد السؤال.
ما لم يحدث هذا, وما لم يصار إلى جعل الميثاق فتحا جديدا ملزما, فسيبقى مجرد حبر على ورق، والعبرة في نجاحه وفاعليته هي ألا نرى أحدا من أبنائنا يصرخ في وجوهنا بتشنج ويجلدنا بغليظ القول باسم التقى على منهج أهل الكهوف ودعاة تجهيل هذا العصر، وألا نسمع عن أساتذة يسخرون من زمننا ومنجزاته ويدعون إلى كراهية الآخرين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي