منتدى جدة الاقتصادي: الانطلاق الاقتصادي والتفاهم
إذا كان الهدف من تنظيم منتدى جدة الاقتصادي على مدى الأعوام السبعة الماضية، هو تحقيق سمعة إعلامية ودعائية لاقتصادنا عموما ولمدينة جدة خصوصا، من خلال استضافة أكبر حشد ممكن من السياسيين السابقين ورجال الأعمال المرموقين ورؤساء مجالس بعض الشركات العالمية، فأقول إن هذا الهدف قد أخذ يتحقق.
أما إذا كان الهدف هو الاستفادة من التجارب الاقتصادية الناجحة لبعض الأمم من خلال الاستماع بعناية لهذه الثلة من المتحدثين والمشاركين في المنتدى من ذوي الخبرات الاحترافية العالية والكفاءات المهنية المشهودة، ثم ترجمة هذه الفوائد إلى برامج عمل يؤخذ بها للانطلاق باقتصادنا نحو المستوى الذي يليق بإمكاناته وحجم ثرواته، فإني أرى أن الطريق لا يزال طويلا أمامنا، لأن حركتنا بطيئة.
لذلك ومن أجل أن يتحقق الهدف الاقتصادي من مثل هذه المنتديات - بجانب الهدف الدعائي والإعلامي - علينا الاستفادة من هذه المشاركات باستيعاب النصائح والمرئيات التي تلقى علينا، وتدوينها بدقة في شكل توصيات مهمة أو برامج عمل نأخذ بالصالح منها، كل فيما يخصه سواء في القطاعات الحكومية أو الخاصة. وكم نحن حقيقة بحاجة لنسابق الزمن لإحداث التغيرات والإصلاحات اللازمة لاقتصادنا، والتي يمكن أن تدفع به نحو آفاق أوسع وأرحب من النمو والازدهار الاقتصادي.
كان خلف المنتدى ثلة من الكفاءات الوطنية الشابة الممتلئة حماسا وجدية، من أمثال رئيس المنتدى عمرو عناني، ونائب رئيس الغرفة التجارية زياد البسام. وبدون أن نغمط لهم جهودا، أتمنى عليهم أن يوازنوا بين البُعد الاقتصادي لمحاور المنتدى والأبعاد الأخرى السياسية والاجتماعية بحيث لا تطغى الأخيرة على الأولى، ليتوافق محتوى المنتدى مع مسماه.
كما أتمنى منهم أيضا، أن يكون ضمن ضيوفه في اللقاءات القادمة بعض الشخصيات الأكاديمية المرموقة، من المختصين في الاقتصاد والإدارة، من المنتمين إلى إحدى الجامعات أو مراكز الأبحاث المشهورة، ليلقى محاضرة تتناغم مع عنوان وشعار المنتدى. محاضرات تقوم بتشخيص علل اقتصادنا واقتراح سياسات محددة حول سبل دفع الاقتصاد نحو معدلات نمو أعلى، وكيفية القضاء على أهم التحديات والمشاكل الاقتصادية التي تواجهنا: كقضايا البطالة والفقر، آو حماية الطبقة الوسطى من الزوال، أو كيفية تحسين مخرجات التعليم وبيان أنسب برامج التعليم، أو سبل تحسين الخدمات الصحية العامة، وتطوير خدمات الإسكان تخطيطا وتنفيذا وتمويلا، ونحو ذلك من القضايا والتحديات الملحة التي يعاني منها اقتصادنا.
لا يسعني في هذا المقال أن أستعرض أو أقيّم كل محاضرات المنتدى. ولكن من خلال ما تسنى لي حضوره من هذه المحاضرات، استمتعت بمحاضرة ثمينة ومفيدة جدا للسيد ستيف فوربس، وهو شخصية مرموقة ومعروفة في الولايات المتحدة، ومرشح سابق للرئاسة، ومالك ورئيس الشركة التي تحمل اسمه والتي تصدر مجموعة متنوعة من المطبوعات كمجلة "فوربس" الشهيرة.
كانت محاضرة السيد فوربس متوازنة، بدأها ببيان المزايا الراهنة للاقتصاد السعودي، مثل التحسن النسبي الذي طرأ على معدل نمو اقتصادنا، وتحسن بيئة الاستثمار نسبيا في الآونة الأخيرة، وفقا لتصنيف بعض المؤسسات الدولية. حيث صُنف الاقتصاد السعودي أخيرا كأفضل بيئة لممارسة الأعمال والاستثمار في المنطقة العربية، وفقا للمعايير الستة التي استخدمت للتقييم. كما أشاد كذلك باستقرار قيمة العملة السعودية والتحكم في نسب التضخم.
بعد ذلك قدم السيد فوربس نصائحه الثمينة حول ما ينبغي أن نفعله ونركز عليه. وسيلاحظ القارئ الكريم أن هذه النصائح ليست جديدة أو غريبة، فقد كتبت (وكتب غيري) عنها وناديت (ونادى غيري) بها، وبإمكان القارئ الكريم الذي يتصفح موقع هذه الجريدة على الإنترنت أن يعود إليها بسهولة. لكن إن كان زامر الحي لا يطرب، فلا مانع أن أنقل لكم ما قاله الرجل، فلعل التأكيد على هذه الأفكار من هذه الشخصية الثرية بخبرتها، يعطيها وزنا وتأكيدا أكبر، علّه يجعلنا نزداد يقينا واقتناعا بمدى أهمية ذلك.
يشدد السيد فوربس ناصحا، أن أهم ما ينبغي السعوديين أن يهتموا به هو الانشغال الجاد بمسألة تنويع مصدر الدخل. وأكد ضرورة استغلال الظروف الراهنة لتبني استراتيجية واضحة ومحددة فيما يتعلق بهذه المهمة. فمن الخطورة بمكان الاعتماد بهذا الشكل المستمر على عوائد متقلبة ومن مصدر قابل للنضوب في يوم ما.
ولا شك أن حوادث الدهر وصروف الزمان تثبت لنا صحة هذا القول. فليس هناك ما يضمن استقرار هذه العوائد عند مستوياتها الراهنة. ولو ضاعت - لا قدّر الله - هذه العوائد العالية الراهنة يمنةً ويسرةً في أنشطة استهلاكية غير منتجة، ودون عزيمة صادقة وهمة عالية واستراتيجية واضحة تتبنى خططا محكمة قائمة على مشاريع وبرامج منتجة ومولدة لفرص عمل واسعة، فإننا نكون قد أهدرنا فرصة عظيمة قد يصعب تكرارها.
وقد أشاد الرجل بمشروع مدينة الملك عبد الله المزمع إقامته في ينبع على سبيل المثال، والذي أتمنى بدوري أن يكون عند مستوى الآمال المعلقة عليه وأن يشق طريقه دون تباطؤ أو عقبات.
وكانت نصيحة الرجل الثانية، ضرورة الاهتمام البالغ بتحسين وتطوير برامج التعليم في بلادنا. وعدم التردد في الإنفاق بسخاء على التعليم لتطويره وتحسين نوعيته، فهو من أجدى وأهم أنواع الاستثمارات عند الأمم في كل زمان وكل مكان. وضرب مثلا بتجارب الأمم الآسيوية الناهضة ففيها كل العبر وأبلغها!
أما نصيحته الثالثة، فهي أن تعمل السياسات الحكومية وبشكل عاجل على تشجيع زيادة مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي. وهذا يتضمن أن تحّول الحكومة ملكية مؤسساتها للقطاع الخاص، وبالذات تلك المدرة لعوائد والتي يمكن أن تدار بطريقة تجارية مربحة. إن دور الحكومة يجب أن يقتصر على رسم السياسات وتطبيق القوانين، والابتعاد عن ممارسة النشاط الاقتصادي المزاحمة للقطاع الخاص قدر الإمكان.
ونصيحته الرابعة تركزت حول كيفية إدارة السياسات المالية والنقدية. فهو من أشد الداعين لتخفيض ضرائب الدخل إلى أدنى مستوى ممكن، بل إنه من المحبذين لاستخدام معدل ضريبي موحد Flat rate. فهو يرى أن ضرائب الدخل العالية في بعض الدول هي واحدة من أهم أسباب عدم إحرازها نموا اقتصاديا ذا معنى. وضرب مثلا بالدول الإفريقية، التي تتراوح ضرائب الدخل فيها ما بين 40 في المائة. إلى 55 في المائه. ذلك أن الضرائب العالية مثبطة وأحيانا قاتلة للنشاط الاقتصادي، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى نقص حصيلة الدولة منها. فلا هي عملت على تنشيط الاقتصاد ولا هي مكنت الدولة من الحصول على إيرادات كافية. واليوم نشاهد أن أيرلندا من أكثر الدول الغربية تحقيقا لمعدل نمو مرتفع ومتوسط دخل عال، وهي تتفوق بهذا على بريطانيا وفرنسا وحتى ألمانيا نتيجة لتبنيها سياسة المنافسة والحرية الاقتصادية والضرائب المنخفضة.
وختم بالإشارة إلى أن أهم مصدر لتمويل النشاط الاقتصادي والتجاري في الولايات المتحدة اليوم، هو مؤسسات تمويل الإسكان (المورقيج Mortgage) وليس البنوك ولا الأسواق المالية ولا البورصات. ولعل هذا يوضح أهمية ما طالبت به في مقال سابق لي قبل أسبوعين بعنوان (ولقد مررت على الديار بربوة) بضرورة الإسراع في تبني نظام للرهن العقاري لما له من أهمية بالغة في تشجيع قيام مثل هذه المؤسسات ومن ثم دعم رواج النشاط الاقتصادي.
إن كل هذه النصائح الثمينة لن يكون لها أي معنى، حتى لو أخذنا بها، إذا ظل الفساد قابعا في حياتنا. الفساد الإداري آفة الانطلاق وسبب كل بلاء في الدول النامية.