رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


هل التهافت على الفتوى دليل على ضعف الإيمان؟

تميز العصر الراهن، أو قل الربع الأول من القرن الخامس عشر الهجري الحالي بتهافت شديد على الفتوى، سواء من حيث كثرة طالبي الفتوى "المستفتين" من عامة الناس وخاصتهم، إذ لم يعد الأمر مقتصرا على فئة دون أخرى، أو على أمر معين من أمور الدنيا والعبادات، أو من حيث كثرة المفتين الذين أغراهم تهافت الناس على هذا الميدان، إذ لم يعد الأمر محصورا في الفقهاء والمتعلمين، بل إن الغالبية نصّبوا أنفسهم روادا ومصادر للفتوى، وأصبح من النادر، إن لم يكن من المستحيل، أن تسمع أو ترى أحدا يُسأل عن مسألة ما ويقول لا أدري، فالكل يفتي، طلاب العلم، وأئمة المساجد، والمعلمون في المدارس، وهذه الفئة الأخيرة تعد الأكثر والأخطر لأنها ترعى عقولا غضة يافعة من طلبة المدارس، الذين بدأت عقولهم في التفتح ويستهويهم السؤال عن كل شيء، ولا يتردد معلموهم في إجابتهم عن علم وعن غير علم أحيانا كثيرة، ولا يسوغ في نظرهم، أي المعلمين، الرد أو التظاهر بعدم المعرفة أمام طلبتهم، لأن هذا يقلل من مكانتهم، ونظرة طلبتهم التقديرية لهم.
في مرة من المرات قال لي ابني، الذي لم يتجاوز سن العاشرة، وكنا خارجين للتو من المسجد، بعد أداء صلاة المغرب، بابا: لقد عملت شيئا حراما، فقلت له ما هو؟ قال: إنك خرجت من المسجد برجلك اليمنى قبل اليسرى!! فسألته: من قال لك إن هذا حرام؟ قال: المعلم، فأوضحت له أن هذا ليس من باب الحرام، وإنما هو من الأمور المستحبة .. فانظروا كيف ترسخ في ذهن هذا الطفل، وربما معظم زملائه، معنى الحلال والحرام من خلال هذه المسألة البسيطة، وتخيلوا الكم الهائل من الأسئلة التي يطرحها الطلبة على معلميهم، ويتلقون الإجابة عنها على هذا النحو؟ دون تقدير لمستوى إدراك هؤلاء الطلبة الذين سوف يؤمنون بصحة ما يصدر عن معلميهم.
من ناحية أخرى، فقد استهوى هذا الإقبال غير المألوف، على هذا الميدان، معظم القنوات الإذاعية والتلفازية الفضائية، فخصص كل منها برنامجا ثابتا لاستقبال أسئلة المشاهدين في مختلف الأمور الدينية والدنيوية، والرد عليها من قبل أحد العلماء أو حتى طلبة العلم حتى غدت تلك البرامج مصدر استغلال وتكسب مادي تجني من ورائه تلك القنوات أموالا طائلة، تدرها الإعلانات التجارية التي تتخلل تلك البرامج، والمكالمات الهاتفية مدفوعة الثمن، وعندما تفتح على أحد تلك البرامج تسمع ما يوحي لك بضعف إيمان الناس في معتقداتهم أو أنهم لا يكادون يفقهون من أمور دينهم شيئا، ويأخذك العجب، أحيانا، من الإجابات التي يجلب معظمها الشك أكثر مما يجلب اليقين، ولا تكاد تسمع من المفتي ردا يوحي بعدم معرفته الإجابة أو بأنه سيقوم بالرد في حلقة قادمة بعدما يعود إلى المراجع والأدلة والبراهين، لأن هذا في نظره يقلل من علمه ومكانته أمام المشاهدين.
من يريد التعرف أكثر على ما وصلت إليه الحالة من سوء، فعليه أن يرى ويستمع إلى ما يدور في المجالس الخاصة، واللقاءات الاجتماعية عندما يتطرق الحديث إلى موضوع من الموضوعات التي يتحاور حولها الناس عادة، مثل صفة صلاة المسافر، أو فقه المعاملات التجارية، أو أمور الحج وسترى وتسمع الكل يفتي، والكل يتعصب لرأيه، ويختلف مع الآخر أو يستدل بما سمعه من غيره، ويقول: فلان قال لنا كذا، ونحن فعلنا كذا وكذا، وقليلا ما يتفق اثنان حول أسلوب واحد لكيفية ممارسة العبادة أو الفعل المطروح أو المسؤول عنه. يؤخذ من هذا كثرة اختلاف الناس وعدم اتفاقهم على مفهوم واحد لأمر من أمور دينهم ودنياهم، كما يؤخذ منه سيطرة نزعة التطرف والتعصب التي غزت عقول الناس وأذهانهم، وأدت إلى تنافرهم وتفرقهم إلى شيع وطوائف وفئات، يفرقها أكثر مما يجمعها.
أين نحن مما كان عليه الوضع قبل عدة عقود؟ أيام كان أجدادنا وآباؤنا يعبدون الله على بصيرة، وعلى الفطرة التي وجدوا عليها من كان قبلهم، لا يوجد بينهم اختلاف أو تنافر في الشكل والمظهر، وطريقة اللبس، أو في المخبر والمضمون، كما لا يوجد بينهم غلو أو تطرف أو مبالغة حول أمور العبادات، وما شرعه الله وأوجبه عليهم، يعيشون متحابين متكاتفين يتسابقون إلى فعل الخير وإصلاح ذات البين، رغم ضعف الإمكانات المادية، وقلة ذات اليد .. أين ذلك كله مما آل إليه الوضع في وقتنا الحاضر من فرقة وتشاحن وتباعد بين فئات المجتمع، حتى في نطاق الأسرة الواحدة، بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، هذا متعصب وذاك متسامح، وهذا متطرف وذاك معتدل أو وسطي كما يطلق الآن، وما يتداول من ألقاب ونعوت وصفات لم نكن نسمع بها من قبل!
بل أين نحن مما كان عليه زمن الفقهاء الأقدمين من السلف الصالح ومن أتى بعدهم من علماء الأمة، الذين كان لهم دور بارز في إرساء مفهوم العبادات، وتفقيه الناس بأمور دينهم، بعيدا عن التطرف والغلو، يتصدون لكل من يشكك الناس في معتقداتهم، وينيرون لهم طريق حياتهم وممارسة عباداتهم بأسلوب محبب، لا يخلو من الملاطفة والممازحة أحيانا يشعر الناس بقرب علمائهم منهم واهتمامهم بهم، وتقبلهم لكل ما يصدر عنهم، بعيدا عن التجهّم والتشدد وما يدعو إلى النفور والفرقة.
جاء رجل إلى أبي حنيفة فقال له: إذا نزعت ثيابي ونزلت إلى النهر أغتسل فهل ينبغي عليّ أن أتوجه إلى القبلة؟ فقال له أبو حنيفة: الأفضل أن يكون وجهك إلى جهة ثيابك كي لا يسرقها اللصوص!
وسأل رجل الشعبي: هل يجوز للمحرم أن يحك بدنه؟ قال: نعم، فقال الرجل: مقدار كم؟ قال الشعبي: حتى يبدو العظم!
وسأل رجل الشعبي عن غسل اللحية أثناء الوضوء إذا كانت كثيفة كيف يكون؟ فقال له: خللها "أي خللها بأصابعك لكي يدخل الماء إليها" قال الرجل: إنني أتخوّف ألا تبتل، فقال الشعبي: إن تخوفت فانقعها من أول الليل!
سأل رجل عمر عن الحصاة من حصى المسجد يجدها الرجل عالقة بثوبه أو خفه أو جبهته ماذا يصنع بها؟ فقال له: ارمها، فقال الرجل: زعموا أنها تصيح حتى تُرد إلى المسجد! فقال عمر: دعها تصيح حتى ينشق حلقها، قال الرجل: وهل لها حلق؟ قال عمر: إذا كيف تصيح؟!
روي أن رجلا جاء إلى أبي حازم فقال له: إن الشيطان يأتيني فيقول: إنك طلقت زوجتك فيشككني! فقال له: أو ليس قد طلقتها، قال: لا، قال أبو حازم: ألم تأتني أمس فطلقتها عندي؟ قال الرجل: والله ما جئتك إلا اليوم، ولا طلقتها بوجه من الوجوه، قال أبو حازم: فاحلف للشيطان إذا جاءك كما حلفت لي وأنت في عافية!
هذه بعض نماذج لأساليب العلماء في الرد على أسئلة ما كان ينبغي أن تُسأل، ومع ذلك لم يكن ردهم منفراً أو متصفا بالغلظة والقسوة، بل كان مغلفا بروح الدعابة والمفاكهة حفاظا على مشاعر السائلين وإفهامهم بطريقة غير مباشرة أن ما سألوا عنه لم يكن بحاجة إلى فتوى، كما يدل ذلك على بساطة العلماء ونزولهم إلى مستوى فهم العامة وإدراكهم، وتبسطهم معهم لإزالة الحواجز بينهم، ويدل من ناحية أخرى على ما كان يتمتع به العلماء من سعة أفق وحلم، وتحمّل لأسئلة العامة حتى لو كانت ذات طبيعة ساذجة وعفوية.
قبل إنهاء ما أردت قوله، أقول: إن السبب في ذلك كله يعود أولا إلى تخلي معظم العلماء عن دورهم الأساس في تنوير الأمة وتبصيرهم بأمور دينهم، بعيدا عن التطرف والغلو، الأمر الذي أفسح المجال لأعداد كبيرة ممن يتسموّن بالعلماء فتمكنوا من استقطاب العامة إليهم بالوسائل التي تداعب عواطفهم مثل الأشرطة والكتيبات والخطب الحماسية. ويعود ثانيا، إلى نظرة التعالي التي ينظر بها بعض العلماء إلى عامة الناس، التي أسهمت في إقامة الحواجز بينهم، مما جعل البعض يتردد في طرح أسئلته على العلماء الكبار خوفا من استهجانها وعدم تقبلها. كما يعود ثالثا، إلى انتشار القنوات الفضائية وطغيان النظرة المادية على الرسالة التي يفترض أن تقوم بها، مما جعلها تتسابق إلى تقديم برامج باسم الفتوى لاستقطاب السواد الأعظم من المشاهدين.
والسؤال الذي يبرز تلقائيا هو: إلى أين تسير الأمة؟ وما الذي سيؤول إليه الوضع بعد عقد أو عقدين من الزمن؟ وهل ستسير الأمور كما هي الآن من تنافر واختلاف على البديهيات من أمور الدين، أم سيقيّض الله للأمة من ينير الطريق أمامها ويبصرها بأمور دينها، ويسد الفجوة بين أبنائها، وهو ما ندعو الله أن يحققه.
والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي