ما لا يحتمل!!
كيف يتآكل الحماس للعمل أو للحب أو للصداقات؟ كيف نقبل مفعمين بالولع ثم نكف عن الإحساس بذلك؟ أساتذة التدريب في تنمية المهارات والعلاقات الإنسانية يقدمون لنا إجاباتهم عن ذلك زادا من الكلمات المنمقة الأنيقة الرشيقة عن التجربة والخبرة ونماذج النجاحات الشخصية، وغالبا ما تكون الكلمات على شاكلة نوبات مثالية يتم الإيهام بإمكانية تعاطيها كعقار يتكفل بوفرة من الحماس الذي ننشده.
وعلى ما لهذا الطرح من أهمية, معرفية بالدرجة الأولى, ثم نفسية بدرجة أقل, إلا أنه يغمض عيناً عن شبكة معقدة من المؤثرات الاجتماعية والنفسية ويسكت عنها, لا عن لؤم أو رغبة في التمويه، وإنما لأن محاولة الإحاطة وكشف كامل الميدان والملابسات والظروف التي أفرزت تلك النماذج الناجحة تطفئ الوهج الذي يترصده أساتذة تعليم المهارات ويفل سلاحهم السحري, أي يسلبهم حجة وقوفهم أمام تلامذتهم.
ذلك أن أولئك الأساتذة يدركون أن دفعهم إلى مواجهة التعقيدات المحيطة بالأشخاص أو التجارب الناجحة يورطهم إلى حد كبير في مواجهة أسئلة فلسفية عويصة, لا يملكون (أو معظمهم) إجابات عنها, بل ربما لا يكلفون أنفسهم عناء سبر أغوارها, الأمر الذي يجعلهم يعتصمون بالوهج معزولا عن سياقه, حرصاء أشد الحرص على عدم انكشاف عجزهم بالحيلولة بكامل قواهم العقلية كي لا يدفعهم تلامذتهم إلى حيث لا يحبذون.
لكن ألا ينم هذا المسلك عن رغبة في التمويه؟ ليس تماما, أو على الأصح فالأساتذة يبررون هذا لأنفسهم على أساس أن العلاج بالصدمة أجدى من غطس التلامذة في بحر الفلسفة متلاطم الأمواج ثم إنهم يتذرعون بأن الوقت سيتلف في الجدل الذي سيبدو أن لا نهاية له, وبالتالي يفسد مهمة الدرس البليغ المطلوب تلقينه لهم للتمثل به والانصياع إلى سلطة القول وفق هذا التصور أو ذاك.
هكذا إذاً تتم عمليات نهب مشاعر الحماس أو تسريبها قطرة قطرة, إن لم يكن بفعل مباشر من مجريات سلطة العمل وإملاءاتها, فبفعل مباشر آخر من إلزامات منظري تعليم المهارات والعلاقات الإنسانية. أو بفعل مباشر ثالث ممن تحمسنا نحن لمنحه جهدنا وعملنا أو لمنحه حبنا أو صداقتنا, فإلحاح أولئك وإصرارهم على تكبيلنا بما يجب والمفروض والرغبة في الاستحواذ والتملك يوما بعد يوم وحصارهم لنا بأمزجتهم بطريق إجباري ذي اتجاه واحد هي ما يتكفل بإطفاء الحماس وبقمع شهيتنا للعلاقة شيئا فشيئا, فلا أقدر على إفساد العلاقات بالعمل والناس وتدميرها أكثر من تحميلها ما لا تحتمل, ولا ينفر بعضنا من بعض إلا الإيحاء بأننا نحن مَن ينبغي أن نكون محل الاهتمام.. هاهنا لا يتآكل الحماس فحسب، بل يتم إزهاقه.. حيث لا مكان للندم.