قمة مكة الإسلامية وتحدي الهجمات الإعلامية
من أعضل الإشكاليات التي ألمََت بالأمة الإسلامية خلال العقدين الماضيين تجنيد شبابها للغلو في الدين واتخاذ مبدأ العنف مسلكا لحل المشاكل والمستعصي من الأمور. لا شك أن الهدف هو محو الهوية الدينية والثقافية المؤسسة على سماحة الدين الإسلامي. ولو لم يكن تسلل مثل هذه الأفكار للمجتمعات عبر شبابها الحيوي المتقد لوئدت في مهدها, ولكن وجدت أرضية جاهزة للاستيعاب زادها خصوبةً كيفيةُ التعامل معها من البعض بعفوية ودون تخطيط أو دراسة لفهم الأسباب والدوافع ومسار التحركات المختلفة، وبالتالي تعثر الوصول للعلاج وازدادت الكارثة صعوبة بل وامتد تأثيرها لباقي العالم الإسلامي. في خضم ذلك وجد الإعلام الغربي ثغرة جديدة استفاد منها لينال من الإسلام والمسلمين, وعندما تيقن أن المنجرفين تشبعوا بهذه المفاهيم وقبلوا أن يحاك لهم مصيرهم, بدأوا يخلطون الأوراق بتصريحات وتلميحات يخصون هذا البلد تارة وذاك البلد تارة أخرى, لتبدو القضية طلاسم صعبة الفهم ومعادلة يستحيل حلها بالأساليب الاعتيادية السلمية والحاجة ملحة للتغيير بمنظورهم.
هذا ما وقع واتى أُكلَه في الحقبة الماضية, وامتد تأثيره إلى أن أظهر الله الحق فقد تصدت المملكة لكل التصريحات والمقولات والخطب بإقامة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مؤتمر "موقف الإسلام من الإرهاب" في نيسان (أبريل) 2004م, ودعت المملكة لمؤتمر مكافحة الإرهاب في شباط (فبراير) 2005م, وعقدت في مكة المكرمة مهبط الوحي ومنزل الرسالة القمة الإسلامية الاستثنائية في كانون الأول (ديسمبر) 2005م, لتري العالم أجمعه صدق النوايا ورشد القيادة وحنكتها, وأنها بما حققته برفض الفكر المنحرف ومحاربة الفئات الضالة وتتبع أتباعهم, وإقامة مثل هذه التجمعات العالمية والإسلامية كذبت كل تشويش وتضليل, بل وأصبحت في مقدمة الدول بمرجعيتها في العلوم الأمنية ومن أهمها مكافحة الجريمة والإرهاب والمخدرات. في قمة مكة التاريخية جمع خادم الحرمين الشريفين، يحفظه الله، قادة الدول الإسلامية ليجدد ويبدأ عهدا جديدا يتميز بصدق النوايا والمصارحة مستهلا بنقد الذات, ثم وضْع أطر العمل المهمة لمستقبل أمتنا الإسلامية على المديين القريب والبعيد. لقد وقع القادة بلاغ مكة كإطار عمل العالم الإسلامي للسنوات العشر المقبلة إلا أن المفكرين والكتاب وأساتذة الجامعات والمثقفين في الدول الإسلامية عليهم المساهمة في إيجاد واقتراح آليات تفعيل محاور البلاغ لتقريب مفاهيم الأمة وفيما يرسخ مبدأ التعاون بين الدول الإسلامية على أساس:
أولا: ضمان حفظ الحقوق لكافة الأديان والرسائل السماوية وعلى رأسها الدين الإسلامي وعدم المساس بها أو بمبلغيها أو رسلها أو كتبها مهما حدث على وجه الأرض.
ثانيا: تكرار توجيه الرسالة المجمع عليها في مؤتمري 2004 و2005م للعالم أجمع أن العنف والغلو والإرهاب ليست من الإسلام في شيء كما ليس للإرهاب دين أو وطن وما حل بالعالم لا بد أن يذوب بجهود الجميع لأنه مسؤولية الجميع.
ثالثا: رفع همم الشعوب الإسلامية وتعزيز غيرتهم على دينهم الحنيف واستمرار تكرير الرسالة بأساليب متطورة لأجيال مقبلة.
في هذا الصدد ومن وجهة نظري لن يكون هناك أفضل من الإعلام بوسائله المختلفة ليقوم بالخطوة الأولى والتصدي لهذه المهمة في هذا الاتجاه، خصوصا وأننا قد وُصِمنا باستحالة التجمع والوحدة والاتفاق منذ أمد بعيد وحتى قمة مكة. لذا فعلى وسائل الإعلام أن تعيد وهج شعلة الإيمان, ونشر العقيدة في كل مكان, بتكثيف التواصل المستمر بين رموز الإعلام في كافة الدول الإسلامية عبر القنوات الفضائية الحالية أو التي ستبث أو المقترح تأسيسها مع إعادة توجيه الغرض من ذلك. كما يمكن توظيف من نتوسم الخير فيهم من كتاب الساحات على الإنترنت لخدمة دينهم فالكثير منهم يتصدى للهجمات الإعلامية على الإسلام باقتدار في كثير من الأحيان. الأمر الذي يكشف لنا عن مكنون ومعدن المسلم الذي لا يحتاج سوى جذبه والحوار معه لتسخير فكره وقلمه في الحق وللحق. ولتكن قضية انتهاك إعلام النرويج والدنمارك لذات نبينا، صلى الله عليه وسلم ولخصوصيتنا أول تمرين عملي يترجم هذا التلاحم الذي وبحمد الله بدأت بوادره على صفحات الجرائد والإنترنت وبعض القنوات الفضائية في وقفة دللت على وحدتنا الإسلامية أمام كل متعدٍ ومعتدٍ على الإسلام ورسول الأمة عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. قد يقترح أيضا تحفيز البرامج الهادفة لنشر العلم والثقافة بأسلوب الجوائز والمنح المالية والعينية لكل كتاب قيم يترجم أو لكل إنتاج فكري متميز, أو براءة اختراع جديدة, أو بحث علمي أو تصميم هندسي يساهم في تنمية أو نهضة إنسانية فريدة ففي العصور الإسلامية السابقة تم الاهتمام بالترجمة وصرف عليها الكثير. وفي حقبة زمنية قريبة سابقة حقق القائد لينين في روسيا بدعم العلوم وصرف كل مقدرات البلد على ترجمة العلوم الغربية والشرقية ما فاجأ به العالم بصعود روسيا سطح القمر بعد 40 عاما من الجهد المتواصل في التعلم والدراسة. وما هذه إلا أمثلة سجل التاريخ العديد مثلها. من ناحية أخرى يمكن الاستفادة من تجمع المسلمين من معتمرين وحجاج في أرض واحدة وحول بيت واحد لأداء مناسك موحدة تلبية لدعوة الواحد الأحد سبحانه وتعالى كمناسبات تتكرر كل عام. وأظن أن هذه المادة تعتبر الأثمن في الرسائل الإعلامية. كما وأن بروز بعض الدول في الإنتاج والعمل السينمائي قد يستغل كصناعة تتقاسم الدول الأدوار والتمويل فيها لإبراز الصورة الحقيقية للدعوة الإسلامية التي أخرجت الناس من الجهل إلى العلم ومن الظلام إلى النور.
في خطوة تفعيلية موازية لما ذكر فلا بد من إيلاء الفقر وانتشار الأمراض جل الاهتمام بتسخير زكاة الأموال للدعم الحقيقي للفقراء ورفع معاناتهم وتأصيل نظام التكافل الاجتماعي كأفضل اقتصاد على وجه الأرض وعلى مر كل العصور. وبما أن استثماراتنا العربية - على سبيل المثال - في الخارج بلغت آلاف المليارات من الدولارات فيمكن بعوائدها تشغيل أبنائنا وإخواننا في كافة الدول الإسلامية وتبادل الخبرات ليكون العائد تنمية شاملة لكل المجتمعات. ولدينا تجارب حية يمكن استعراضها ابتداء من المملكة العربية السعودية حيث بدأ أبناء المجتمع فيها غير مستعدين للتنازل عن المستوى الذي وصل إليه والمكتسبات التي تحققت في هذه الفترة بالدعم المستمر من الدولة وولاة أمرها، حفظهم الله. أما من ناحية الخطوات التالية فمن أهمها تكريس جهود أهل العلم والمعرفة بالدول الإسلامية لرفع المستوى التعليمي والثقافي بين أفراد المجتمع لكل دولة وبين كل الدول, ومحاولة انصهار المختصين في الشؤون المختلفة كل في تجارب الآخر لفهم كيفية تعامله مع العقبات وأنماطها المختلفة.
في الواقع بعد قمة مكة الناجحة بكل المقاييس نحتاج إلى أكثر من قمة وتجمع لتلاحم أكبر وتقريب الفجوات وفض التناحر والاهتمام بالقضايا العالقة ومراجعة مستوى التقدم من آونة لأخرى (ولو على مستويات مختلفة) للحفاظ على ديمومة التواصل، التي نتمنى أن تتحقق بها تنمية دائمة بإذن الله. والله من وراء القصد.