رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


تأصل الديمقراطية يعزز النزاهة والشفافية .. آيسلندا مثل

احتلت آيسلندا المرتبة الأولى من بين 159 دولة في آخر تصنيف لمنظمة الشفافية الدولية, الذي يقوم على تصنيف الدول في مجال النزاهة والشفافية ومكافحة الفساد, بناء على معطيات ومؤشرات وتقارير تستقيها المنظمة من مؤسسات دولية, ومراكز أبحاث, وخبراء ومحللين, ورجال أعمال, ومما ينشر من أنظمة وتقارير وإحصائيات عن الدول, بحيث يحتل المرتبة الأولى في قائمة التصنيف أكثر الدول نزاهة, ويقبع في آخرها أكثرها فسادا. أي أن آيسلندا تعد الآن أكثر الدول نزاهة على وجه الأرض, في ممارسة الأعمال وشفافية الأنظمة, ونزاهة المسؤولين, والمحافظة على المال العام. وآيسلندا, للذين لا يعرفونها, جمهورية تقع في أقصى الشمال الغربي لقارة أوروبا, وهي جزيرة في المحيط الأطلنطي, قريبة من القطب الشمالي, ومعظم أراضيها تغطيها الثلوج طيلة العام, وتتركز الحياة البشرية قرب المناطق الساحلية فيما لا يزيد على 25 في المائة من المساحة الكلية, وسكانها لا يتجاوزون نصف مليون نسمة بسبب صعوبة الحياة, وعاصمتها هي مدينة دكيافيك. أما الاقتصاد ونشاط السكان فيعتمدان على تصنيع وتصدير الثروة السمكية, وعلى تجارة الأخشاب, وهي بلد متقدم في التعليم تاريخا ومستوى ونوعا, ومن هنا جاءت في مقدمة الدول في رسوخ التشريعات والقوانين والديمقراطية, وشيوع العمل المؤسسي, وضمان الحقوق العمالية والاجتماعية, وأهلها هادئون مسالمون قليلو الكلام كثيرو العمل!! وليس لديها جيش أو أساطيل حربية.
ورغم صعوبة الحياة المتأتية من طبيعة الطقس القاسي في هذا البلد, فقد حاول أهله التغلب على تلك الصعوبات والتأقلم معها, واستثمار المستوى العلمي والتقني الذي وصلوا إليه باستغلال الموارد الطبيعية المتوافرة, مثل المياه المعدنية الحارة التي تنبع من أعماق الثلوج والمياه الباردة, وتعميمها في أنابيب للتدفئة في المباني, وتحت الأرصفة في الشوارع والميادين العامة من أجل إذابة الثلوج, وتمكن الناس من الحركة والمشي, وممارسة الحياة العامة واستغلالها في الاستشفاء وإقامة المنتجعات السياحية والترفيهية.
في زيارة سابقة لوفد من مجلس الشورى لهذا البلد لفت نظرنا عدد من المظاهر البارزة فيه أكثر من غيره, من حيث استتباب النظام في حركة الناس والسيارات, وشيوع مظاهر التنظيم المؤسسي, ورعاية الحقوق الاجتماعية للأسر وأفراد المجتمع. وكان أكثر ما يميز هذا البلد هو ترسخ الحياة الديمقراطية فيه, إذ علمنا أن البرلمان الآيسلندي يعد أقدم برلمانات العالم في التاريخ, بالصيغة الموجودة عليها البرلمانات اليوم في العالم, حيث إنه تأسس في عام 930م, وله دور بارز في إدارة البلد, وما وصلت إليه من تقدم على مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية, فهناك جلسة أسبوعية يواجه فيها الوزراء البرلمان, ويوجه خلالها النواب الأسئلة إلى الوزراء حول أداء وزاراتهم, وما يلحظ عليها من قبل المواطنين من قصور. وقد تصادف أن حضر الوفد جانبا من إحدى الجلسات التي شهدت مواجهة الوزراء, ولاحظنا أنها تتم ضمن إطار من التنظيم والاحترام, والانضباط وتحديد عدد الأسئلة, وحق النائب في التعقيب على إجابة الوزير مرة واحدة فقط!
ومن الطرائف التي نقلت لنا عن هذا البرلمان, أن أطول مداخلة برلمانية في التاريخ سجلت فيه, وكانت لنائبة, وأنها استمرت تتحدث طيلة اثنتي عشرة ساعة متواصلة, لم يقطعها غير شعور النواب بالجوع وخروجهم لتناول بعض الطعام في مقر البرلمان, واغتنامها الفرصة للذهاب إلى دورة المياه!! كما علمنا أن من مظاهر التقدم هو المبالغة في الحقوق الاجتماعية.
فمن حق المرأة العاملة الحصول على إجازة وضع وأمومة مدتها تسعة أشهر براتب, تتمتع هي بثلاثة أشهر, ويتمتع الزوج بثلاثة, للعناية بالطفل, ويتفقان على مَن يتمتع منهما بالثلاثة الأشهر الباقية!! وللمعلومية, وكضريبة للتقدم العلمي والاجتماعي, فليس بمقدور الزوجين إنجاب العدد الذي يريدانه من الأولاد, بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وتربية الأولاد!! ومن هنا, كما يبدو, جاء تشريع الإجازة الطويلة كحافز للتشجيع على الإنجاب, حيث تشكو هذه الدولة من قلة عدد السكان لصعوبة الحياة كما سلف أن بيّنا.
نعود الآن إلى تصنيف منظمة الشفافية الدولية, فنقول إن مؤشر التصنيف يقوم على أساس منح رقم من عشرة أرقام, بحيث تأخذ الدولة الأنظف سجلا والأفضل سمعة أعلى رقم, وتأخذ الدولة الأكثر فسادا أقل رقم, وكان نصيب آيسلندا في آخر تصنيف هو (9.7 من 10) أي أنها تكاد تكون خالية من ممارسات الفساد. وعموما فإن الدول الاسكندنافية ومنها النرويج, فنلندا, والسويد, تعد من أكثر الدول تقدما في مجال الشفافية ومحاربة الفساد, وقد كانت فنلندا تحمل المرتبة الأولى في التصنيف في العام السابق، ويبدو أن المرتبة الأولى ستظل تنتقل من بلد إلى آخر ضمن هذه المجموعة التي يقدر لمن زارها أن يشهد باستحقاقها هذه المكانة، لمظاهر التقدم، وارتقاء السلوك والتعامل التي سيلحظها على الحياة العامة.
وفي الجانب الآخر، نجد أن الدول النامية تتزاحم في أسفل القائمة تتزعمها تشاد التي سجلت أسوأ أداء في مجال الشفافية، إذ لم يتعد تصنيفها (1.7 من 10). ومعظم هذه الدول، أي النامية، يصنف على أنه من أشد دول العالم فقرا في الموارد الاقتصادية، ومع ذلك يذهب الفساد المستشري بها، بمعظم تلك الموارد، ويتركز الفساد في عمولات العقود الحكومية، والرشا التي تدفعها الشركات الوطنية والأجنبية للحصول على العقود أو التي يطلبها الموظفون العموميون لأنفسهم مقابل أدائهم أعمالهم المفروضة عليهم. ويعرّف البنك الدولي الفساد بأنه السرطان الذي ينخر في جسم الاقتصاد، ويقف عائقا أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم فإن علاج هذا المرض يحتاج إلى صبر ومثابرة ووصفات تتمثل في سنّ القوانين والتشريعات التي تتصف بالوضوح والشفافية، وتكفل سد الثغرات، ونقاط الضعف التي تستغل، ويتسلل من خلالها الفساد، وتتركز في الأنظمة والممارسات الحالية، فضلا عما يجب أن تتضمنه التشريعات المطلوبة من منهجية واضحة لتتبع مواطن الفساد وكشفه، ومعاقبة ممارسيه دون استثناء.
ومع أن معظم الدول قد وقع على معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي أقرتها عام 2003 في قمة المكسيك، التي يفترض أنها دخلت حيز التنفيذ بعد أن صادقت عليها 30 دولة، إلا أنها تفتقر إلى الأداة الملزمة بنصوصها، فلا توجد وسيلة للإفادة من تلك المعاهدة سوى قيام البنك الدولي نفسه بربط بعض برامجه الاقتصادية، التي ينفذها في الدول الموقعة بتحسن المناخ الاقتصادي والاستثماري بها، واتخاذ إجراءات فعلية ملموسة لمحاربة الفساد، إضافة إلى أن منظمة الشفافية الدولية يجب أن تكون معنية بمتابعة الالتزام بتنفيذها، وهي، أي المعاهدة، خطوة وإن جاءت متأخرة، إلا أنها خير من ألا تأتي، ويمكن أن تسهم إذا أرادت الدول الموقعة عليها، في توعية الشعوب بمخاطر الفساد، وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني على الإسهام في كشفه ومحاربته.
وإذا التفتنا إلى الدول العربية، وهي في عداد الدول النامية التي ينتشر فيها الفساد، وجدنا أن ترتيبها في تصنيف منظمة الشفافية لا يتعدى درجة ضعيف أو أقل، مع أن معظمها قد وقع على معاهدة محاربة الفساد، إما بدافع التظاهر وإما الرغبة فعلا في محاربته، غير أنه قد يحد من ذلك عدم الجدية في تنقية أجهزتها الإدارية الحكومية مما أصابها على مر السنين من تراكمات توطن الفساد وتمكن المنتفعين من السيطرة على مجريات الأمور الاقتصادية، وتغاضيهم عن الممارسات المشبوهة التي تغلف معظم الإجراءات والشؤون المتعلقة بمصالح الناس.
ويبدو أنه قد يكون من المفيد لو أن الجامعة العربية تبنت صياغة معاهدة خاصة بالدول العربية، تقوم على ميثاق شرف وتضامن والتزام بمكافحة الفساد، مع التزام الجامعة ذاتها بالإسهام في وضع الأنظمة والبرامج التي تحتاج إليها كل من الدول العربية، في هذا المجال، مع إنشاء أمانة عامة مساعدة أو إدارة ضمن الهيكل التنظيمي للجامعة، تتولى المتابعة ورصد ما يحدث من تقدم وتطورات، وإعداد التقارير الدورية عن ذلك للأمين العام للجامعة، الذي يبلغها بدوره للدول الأعضاء وتنشر في تقرير الجامعة الاقتصادي الدوري.
والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي