أي طفرة نتحدث عنها؟!
كانت خطة التنمية الأولى قد لفظت أنفاسها قبل بدء فجر الطفرة الأولى. كانت حركة الإعمار والخدمات والمشاريع محدودة تركز بالدرجة الأولى على المدن الكبرى وعلى الضروري من أدوات التطوير كالتعليم والخدمات الصحية. وكان حجما العمل والقوى البشرية محدودين أيضا ويكاد يكون القائمون على الخدمات والإنتاج وإدارة المرافق سعوديين مع قليل من عمالة وافدة. وكان الدور التنموي كله مناطا بالقطاع العام ولم تكن مساهمات القطاع الخاص غير مبادرات فردية لبعض البيوت التجارية المعروفة.
مع الطفرة الأولى والتي صاحبتها خطة التنمية الثانية فالثالثة انقلبت البلاد رأسا على عقب, تحولت إلى أكبر ورشة شهدها العالم آنذاك. أخذت مشاريع البنية التحتية الكبرى الشاملة طريقها للتنفيذ, حدث توسع هائل في الخدمات من هاتف, كهرباء, مياه, مطارات, موانئ, طرق سريعة وخدمات بلدية وقروية وانفجرت شهية المبادرات الفردية إلى مشاريع خاصة في عديد من الأنشطة والمؤسسات والشركات, إلى جانب عمليات بناء وتعمير واسعة أنتجت مئات الآلاف من الوحدات السكنية في غضون سنوات, أسهم في دعمها إنشاء صندوق التنمية العقارية بالقروض الميسرة مثلما أسهم صندوق التنمية الزراعية وصندوق التنمية الصناعية بدعم مشاريع صناعية وزراعية في طول البلاد وعرضها كما بادرت الدولة إلى التوسع الكبير في بناء المدارس, الجامعات, المعاهد, الابتعاث, التدريب, وافتتاح الصروح الخدمية, الصناعية, الزراعية, الصحية والتجارية, والإدارية على أحدث المواصفات وبأحدث التجهيزات.
هذا الطوفان من العمل والبناء والنشاط استدرج ملايين الأيدي العاملة من كل التخصصات ومن كل البلدان, وفي ظرف عشر سنين تحولت السعودية من دولة في طور النهوض إلى دولة قدمت مشهداً متميزا منجزا لتنمية استحقت كل الإعجاب والتقدير وجعلت السعودية أمنية للباحثين عن عمل أو استثمار.
في الطفرة الأولى تبدلت حالة البلاد فتضاعف معدل الدخول الفردية مرات وتحسنت مستويات المعيشة وتوسعت الطبقة الوسطى في المجتمع كبيرا وانتقلت نوعية الحياة من الحالة الريفية إلى مصاف الدول الحديثة, وأصبحت مكتسبات العصر الحضارية ضمن السياق الاجتماعي وكان كل المواطنين مع الدولة في شغل شاغل لإنجاز مشاريع أو برامج أو أنشطة. صار العمل, الأداء, الإنتاج, والخدمات أبطال الطفرة الأولى. بينما لا يصاحب هذه الطفرة الثانية ذلك الحراك المدهش النشط كسابقتها خصوصاً والبطالة والفقر والسعودة والعمالة ما زالت قضايا متخثرة في أضابير الاجتماعات والاستراتيجيات دون حلول. أما المشاريع والبرامج فقد سلكت دروبها المرسومة التي أنجزتها الدولة عبر سبع خطط للتنمية بعدما استقرت معالم مؤسسات القطاع الحكومي والقطاع الخاص.
جاءت الطفرة الثانية والإنجاز قد ملأ أرجاء البلاد. كما جاءت الطفرة الثانية والسعودية قد أخذت في تنفيذ سياسة التخصيص وأنشأت هياكل لتعزيز هذا الاتجاه مثل المجلس الاقتصادي الأعلى وهيئة الاستثمار وهيئة السياحة ثم هيئة سوق المال وطرح الاكتتابات في شركات كانت الدولة تسيطر على أسهمها بالكامل. وتضافر زخم المنجز مع سياسة التخصيص وإتاحة الاكتتاب على دفع السيولة التي وفرتها الزيادات الجديدة في أسعار النفط, في اتجاه يختلف تماما عن اتجاه الطفرة الأولى فالزيادات الجديدة أحدثت بشكل كبير توجها للمضاربة على الأسهم ونهما للاتجار بها كاد يطفئ كل رغبة في العمل والإنتاج حتى لدى أولئك الذين يديرون مؤسسات لها ثقلها النوعي الاقتصادي.
إذا كان هذا هو حال الطفرة الراهنة, فهل يصح أن تسمى طفرة طالما هي لا تكاد تنتج عملا ولا مشاريع ولا فاعلية اجتماعية وإنما تسوق الجميع, حتى الأطفال, إلى الافتتان بما تسجله الأسهم من تصاعد في أسعارها, حتى بات المؤشر على شاشة التداول والرقم الذي يترجم سعر السهم بطلي هذه الطفرة, فأي طفرة هذه التي نتحدث عنها؟! هل هي طفرة السيولة والانتفاخ الرقمي لأسعار الأسهم ومخاطر تقليص الطبقة الوسطى وزيادة التفاوت الاجتماعي وتجيير مخرجات منجزات الطفرة الأولى وما لحقها لسوق الأسهم؟ أم أن ضجيج المضاربات في الأسهم ضللنا وحجب عنا ما يجري من إنجازات جديدة؟!