روشن اللحم
قد لا يلتفت أطفالنا إلى كثرة اللحم والذبائح والناس غادية ورائحة تتبادل طعمة الأضحيات. وقد لا يعني لهم ذلك شيئا ولا يثير شهيتهم بقدر ما يعرضون عن مشاركتنا نحن الكبار في أكل الحميس وازدراد الكبدة, أو حتى الكوارع والرؤوس المحسحسة.
أطفالنا وفتياننا مأسورون بذائقات وجبات الأكل السريع كالهمبورجر ومشتقاتها, وغالبا ما تفشل محاولاتنا لإغرائهم بعرموش أو قطعة هبرة. أما نحن فرغم أننا مدمنو اللحم بأنواعه, لا يكاد يختفي من موائدنا, في الكبسة أو المرقوق والمطازيز والجريش أو في السنبوسة والفطائر والمحشيات, مازلنا نصاب بشيء من الهوجة والبهجة, تغمرنا زغردات شهية نحسها تتردد في تلمظاتنا, تنشر أريجها في دمنا. ننتشي لمنظر الأضحيات واللحم والشحم, نتبارى في إعداد قدور الحميس ونحتفي بأنفسنا وبمن يعز علينا في حضرتها.
باذخ, باهر, وكبير هو عيد الأضحى, فيه طعم الثراء والأبهة واللذة الخاصة. وكم أن أشقاءنا المصريين دقيقون في تسميتهم عيد الأضحى "العيد الكبير" ففي هذا العيد يشعر البسطاء والفقراء والمستورون من خلق الله أنهم كبار أيضا, يأكلون ما يتعذر عليهم الحصول عليه في الأحوال العادية.
في بلداتنا يمتد أثر عيد الأضحى إلى شهور عديدة قد تصل الأضحى بالأضحى عبر آلية أتقنها أهلنا في الاحتفاظ باللحم الذي جمعوه من طعمات أضحيات الأقارب, المعارف, الجيران, الأصحاب وما تبقى من أضحياتهم. ففي كل بيت كانت العائلة تخصص روشنا للحم ترمي على أرضه الحصير وتضع فيه قطع اللحم بعد حمسها وتمليحها. أو تقوم بنظمها في خيوط كالعقود, تعلقها على الأوتاد في الروشن أو على عوارض خشبية. ومعها يضيفون شرائح القفر (القديد). فقد كان روشن اللحم هو وسيلة أهلنا لحفظ اللحم الذي نادرا ما يأكلونه, إلا من وليمة طارئة أو طعمة من تميمة أو عقيقة أو ماعز الدار أو بقرتها إن مرضت حيث يضطر الناس لذبحها حتى لا يخسروا مع اللبن اللحم!!
روشن اللحم كان ثروة العائلة النفيسة يحاط بهالة من العناية والحراسة لكيلا تطأ عتبته أقدام الأولاد الأشقياء ولكيلا يتعرض لغارات من بعض أهل البيت "الزلوقين". تبقى هذه الثروة في عهدة عميدة الأسرة تعمل على التقتير منها بقطع قليلة من اللحم أو بعض العظام لتضاف للعشاء لإضفاء هالة على فخامة المأدبة. بل إن البعض يعمد إلى تكرار طهو ذات العظام في أكثر من عشاء مستحلبين طعمها إلى آخر قطرة!!
رائع هو روشن اللحم ومثير لمن مر بتجربته وعايشه. ستكون ممن أزلفت له الجنة لو سمحت لك عميدة الأسرة بمرافقتها إلى كنز الخيرات, إنك بالكاد تتمالك نفسك لكيلا تميد بك الأرض أو يغمى عليك من روعة المنظر وعبق الرائحة فالمشهد أسطوري لا يقاوم, تعب منه ببصرك وأنفك ومسام جلدك وتزدرد ريقك مرارا وأنت في دوار النكهة, يرق لك قلب العميدة فتضع في يدك كسرة حميس وتسألك أن تأكلها سرا.
أبناؤنا بالطبع يصعب عليهم أن يحسوا بما نحس فنعم الله (له المنة والشكر) جعلت أبناءنا لا يأبهون لها بل كثير منا يتهرب من أكل اللحم مراعاة للصحة أحيانا أو مللا منه.. ومع ذلك يثير فينا عيد الأضحى علاقة حبنا الأثيرة مع اللحم. تبرق في عيوننا الخراف والأباعر وهي مذبوحة معلقة على العوارض في أحواشنا, لا نكاد ننسى كيف كان الجزار يقتطع جزء من الكبدة ويتوازعها مع من حوله, ويأكلونها نيئة وقد يشاركهم آباؤنا وأخواتنا الكبار في المأدبة الدموية.
روشن اللحم كان بالنسبة لأجدادنا وآبائنا ولنا ممن أدركوه, أكثر إغراء وسحرا من غرفة سندريلا التي يهيم بحبها أطفالنا وفتياننا وألذ مذاقا وأفخر نكهة وأفخم طعما من كل ما في الدنيا من أرقى الوجبات السريعة أو حتى النخبوية.. يظل الحميس والمقلقل وكبدة الحاشي نداءت قادمة من أعماق أرواحنا تجعلنا نستخف بكل المحاذير فتمتد أيادينا بلهفة لنلتهمها بشهية لا قبل لنا بصدها.. ومن لم يفعل فكأن أحدا لم يقل له: كل عام وأنتم بخير!!