الشفافية مفتاح العلاقة بين القطاعين العام والخاص (2 من 4)
تناول المحور الأول من محاور المنتدى موضوع تطوير العلاقة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص, وتناول المحور الثاني موضوع الشفافية والمساءلة ولما لهذين المحورين من علاقة وثيقة وترابط من عدة أوجه, وتأثير كل منهما على الآخر سلبا أو إيجابا, فسيكون التعليق عليهما هو محور مقالتي لهذا الأسبوع.
وكمقدمة أشير إلى أن أكثر ما يعاني منه القطاع الخاص في تعامله مع الجهات الحكومية, هو نقص المعلومات المتاحة حول التوجهات المستقبلية المتعلقة بالإنفاق, والتخصيص, والرسوم, والمشاريع التنموية كالإسكان والطرق والنقل, والتأمين والبنوك, وبرامج الإقراض, وغيرها مما له علاقة بدور القطاع الخاص, وإسهامه في دفع عجلة الاقتصاد في اتجاه النمو المتواصل, إضافة إلى معاناة القطاع الخاص, وبالذات رجال الأعمال, من نظرة التعالي المتأصلة لدى بعض المسؤولين, والمستمدة والمتوارثة من السلطة التي يحتمون بها من خلال الهالة التي يضيفها المنصب, ويعززها ما يحيط به المسؤول نفسه, أو يحيطها به من حوله من موظفي مكتبه, الذين يرى في كثرتهم ما يقوي الحجب بينه وبين أصحاب المصالح من المراجعين, وهذا هو ما يفسر تسابق رجال الأعمال, أو غالبيتهم, للتعرف على المسؤول بعد تعيينه, ومحاولة إحاطته بالاهتمام والتكريم, سعيا وراء بناء نوع من العلاقة يأملون أن يشفع لهم في مقابلته عندما يريدون!!
الشفافية مفتاح الأزمة
للتخفيف من حدة أزمة العلاقة التي عكستها محاور المنتدى في مناقشات حادة لم تخل من تبادل اللوم, أرى أن المزيد من الإفصاح, ونشر المعلومات ذات الصلة باهتمامات القطاع الخاص واحتياجاته, أو التي تؤثر في خططه وتوجهاته الاستثمارية, ومنها إعلان حجم ونوع المشروعات التي تزمع الجهات الحكومية تنفيذها خلال السنة المالية, ومواعيد طرحها في المنافسة العامة, وذلك منذ بداية السنة, أرى أن ذلك سوف يساعد المقاول والمورد, ومن يتعامل مع الحكومة, على إعادة تقويم إمكاناتهم, وما يملكونه من معدات وما لديهم من عمالة, لكي يكونوا أكثر استعدادا وتهيؤا للقيام بتلك الأعمال عندما يتم طرحها في المنافسة العامة, ويحول دون احتمالات إعادة طرحها أكثر من مرة لعدم تقدم العدد الكافي والمؤهل للمنافسة عندما تطرح لأول مرة, وهو ما يلحظ في حالات عديدة تضطر فيها الجهة الحكومية إلى إلغاء المنافسة, وإعادة طرحها, ربما أكثر من مرة, الأمر الذي يتسبب في تأخير تنفيذ المشروعات, وعدم الاستفادة من الاعتمادات المالية التي ترصد لها, وهو ما يتعارض مع خطط التنمية الاقتصادية, وبرامج الميزانية.
ومن الناحية الأخرى, فإن المزيد من الإفصاح, ونشر المعلومات, يخفف على المسؤول عبء المراجعة من قبل المتعاملين مع الحكومية لهثا وراء الحصول على المعلومات, فضلا عن أن ذلك يحقق العدالة لكونه يجعل المعلومات في متناول الكل, بدلا من توافرها لدى البعض ممن يراجع ويلح, دون البقية.
إن ذلك كله يسهم في, إن لم يكفل, إزالة ما يشكو منه المتعاملون مع الحكومة من نقص في المعلومات المتاحة, ومن شأنه أن يقوي العلاقة بينهما, ويزيد من عوامل الثقة, ويجعل القطاع الخاص يتعامل مع الجهات الحكومية وكأنه شريك لا غريم لها.. كما أن من شأنه أن يخفف النظرة التي ينظر بها القطاع الخاص إلى بعض أوجه الفساد في القطاع الحكومي, والتي كثيرا ما يشكو منها, ويحيل إليها ما يشوب العلاقة من نفور وفتور, واتهامات, في بعض الأحيان.
لماذا ينتشر الفساد؟
إن الفساد المالي, ومحوره الرشوة, يعد أحد إفرازات انعدام الشفافية والإفصاح ونشر المعلومات, ووضوح الأنظمة, ومبدأ الثواب والعقاب, وهو ينمو ويترعرع لعدة أسباب, منها:
ـ ضعف الأنظمة وقدمها, وعدم اشتمالها على النصوص المتعلقة بمحاسبة المقصرين, ومكافأة المخلصين, ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى التخبط في تطبيقها, والاجتهاد في تفسيرها وتأويلها, ويجعلها عرضة للتطويع لخدمة أهداف محددة, غير ما وجدت له, وتعطيل مصالح الناس من قبل صغار الموظفين بحجة الدفع بعدم وجود نصوص صريحة لتلبية حاجاتهم.
ـ غياب النصوص المحفزة على الالتزام بالأمانة والنزاهة, وتقدير روادها, مما يجعل الإحباط يتسلل إلى نفوس الفئة المخلصة, وعندما يتساوى الموظف النزيه مع غيره في الترقية والحوافز ونظرة الإدارة, تدور أسئلة كثيرة حول جدوى الإخلاص في بيئة يجد الموظف المخلص نفسه فيها محبطا ومحاصرا بنظرات الازدراء والشفقة التي قد لا يخرجه منها إلا الانضمام إلى ركب المنتفعين!!
ـ تكليف صغار الموظفين بأعمال مهمة وحساسة, مثل جباية الأموال, ومراقبة الخدمات والمشاريع, وأعمال المستودعات, فهذه الأعمال تعد منافذ لتسلل الفساد بسبب الإغراءات المادية, في مقابل ضآلة ما يحصل عليه شاغلوها من مرتبات, لكونهم يقعون في أو في مراتب السلم الوظيفي, أو يعملون بعقود مؤقتة, مما يجعلهم عرضة للإغراءات تحت وطأة العوز, وضآلة ما يحصلون عليه, يضاف إلى ذلك شعورهم بعدم الانتماء والولاء للوظيفة, وأنهم مهددون بالتسريح في أي وقت لعدم تثبيتهم على وظائف رسمية, وهناك أمثلة كثيرة لهذه الفئات في الجهات الحكومية.
ـ ضعف القيادات الإدارية, أو فسادها, أو عدم اكتراثها لما يجري في الإدارة, ويعزى ذلك في الغالب إلى عدم الاهتمام بمعايير اختيار القادة, وبالذات العوامل المرتبطة بالكفاءة, والأمانة, والنزاهة, والسمعة, ومتى ما كانت الإدارة العليا, في أي جهة, فاقدة لهذه الصفات, فمن غير المستغرب توطن الفساد وانتشاره في أروقتها, وعندما يحدث ذلك, ينصرف اهتمام الموظف إلى رعاية مصالحه, والبحث عن أكبر منفعة يجنيها من وجوده, فتتعطل مصالح الناس, وتكثر المراجعات, والشكاوى والتظلمات.
ما هو الحل؟
الكل يؤمن بأن القطاع الخاص شريك في كل شيء, حتى فيما يشاع عن وجود الفساد في بعض الأجهزة الحكومية, ولبسط الأمور أكثر, على مشرحة الواقع, نقول إن الرشوة, على سبيل المثال, تعتمد في الدرجة الأولى على طالب ومعط, وفي بعض الأحيان يدخل عنصر ثالث هو الوسيط, وأحد هذه الأطراف هو الموظف, والآخر هو طالب الخدمة, أما الثالث فقد يكون من هنا أو هناك, أي أن الرشوة تحدث عندما يطلبها الموظف نظير قيامه بقضاء حاجة المراجع, أو يعرضها المراجع عندما يلمس أن طلبه لن ينتهي أو تشوبه شائبة غير نظامية, أو أن الموظف يتعمد تعطيله دون سبب, ومن هنا يعد كل من الأطراف الثلاثة شريكا ومتسببا في انتشارها, والغريب أن هذا يحدث في الوقت الذي يتظاهر فيه الكل بمحاربة هذا الداء!
أردت أن أبين أن القطاع الخاص يمتلك دورا أساسيا في الموضوع, وأن بإمكانه أن يحد من انتشار هذه المشكلة, فلو امتنع أي مراجع عن التفكير في تقديمها, وامتنع أيضا عن الاستجابة لأي ضغوط قد يواجهها, فإن ذلك سيسهم كثيرا في تقليص حجم المشكلة!
يبقى بعد ذلك التساؤل قائما حول مَن يلجأ إليه المراجع إذا أحس بتعمد تعطيل حاجته من أجل إرغامه على الاستجابة. وأقول إن هناك الكثير من الأنظمة واللوائح التي تكفل, لو طبقت, محاصرة هذا الداء, فهناك على سبيل المثال, نظام مكافحة الرشوة, ونظام تأديب الموظفين, ونظام هيئة الرقابة والتحقيق, ونظام جباية أموال الدولة, ونظام وظائف مباشرة الأموال العامة, إضافة إلى وجود العديد من الأجهزة الرقابية وأجهزة المتابعة مثل المباحث الإدارية, وهيئة الرقابة والتحقيق, وديوان المظالم وغيرها, وهذه الجهات يمكن اللجوء إليها عندما يقع صاحب الحاجة تحت ضغوط لا يستطيع مواجهتها.
إنني أتمنى وأدعو الجميع إلى التعاون لكيلا تتحول هذه المشكلة إلى ظاهرة, وألا تثنينا عن ذلك الشائعات التي تروج أحيانا عن عدم جدوى المحاولة, أو لماذا لا نبدأ بالكبار, وغير ذلك مما يجلب الإحباط والسلبية, والبقاء كالمتفرجين.
والله من وراء القصد.