تقديرات محافظة

يبدو أن منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" أضافت إلى الدروس التي وعتها ضرورة الحذر فيما يتعلق بالاعتماد على الأسعار العالية وتخطيط أمورها المالية على هذا الأساس، ومن ثم التعود على حجم كبير من الإنفاق العام يصعب التخلص منه إلا بمتاعب عديدة. فمع تعدد السيناريوهات الخاصة بوضع الأسعار في المستقبل القريب، إلا أن الدول الأعضاء في "أوبك" تتبنى في غالبيتها تقديرات محافظة للغاية فيما يخص موازناتها التي سيتم العمل بها في العام المقبل.
فالأرقام التي نشرت للعديد من الدول حتى الآن تشير إلى أن الأسعار التي بنيت عليها الموازنات تراوح بين 19 و57 دولارا للبرميل، والغالبية ركزت أرقامها بين 30 و40 دولارا للبرميل. وإذا كانت الجزائر تمثل استثناء كونها لا تزال تصر على رقم 19 دولارا للبرميل وهو الرقم الذي تعمل على أساسه منذ عام 2003، فإن إندونيسيا، وهي تكاد تصبح مستوردا للنفط، كما أنها تعاني من ديون متفاقمة، اعتمدت لها تقديرا كبيرا وهو 57 دولارا للبرميل كمتوقع للعائد، وهي بذلك تمثل الطرف الآخر في المعادلة.
وإندونيسيا ليست وحدها في هذا الجانب، فهناك منتج آخر، ولو أنه من خارج المنظمة، هو النرويج، التي رفعت تقديراتها لسعر البرميل من 35 دولارا إلى 54 دولارا للبرميل.
الإحساس العام أن سعر البرميل سيظل مرتفعا، لكن مع الاختلاف حول المعدل الذي يمكن أن يستقر عليه، وتوجه المنتجين عموما إلى تبني أرقام محافظة في تقديراتهم يصب في اتجاه الاستفادة من دروس الماضي الأليمة من ناحية التحوط، وهي خطوة يمكن أن تسهم في وضع لبنة على طريق تحقيق الاستقرار في السوق النفطية، خاصة ومعظم الدول المنتجة استفادت من ارتفاع الأسعار والزيادة في حجم الإنتاج إما لتسديد جزء من ديونها الداخلية والخارجية وإما تمويل بعض المشاريع التنموية وغيرها من أوجه الإنفاق تسعى جهدها لمقابلة الطموحات التي تفرزها البيئة النفطية بالنسبة لمواطني البلد المعني.
من الدروس المريرة التي طالت تجربة الصدمتين النفطيتين في عقد السبعينيات الإحساس العام أن الأسعار مرشحة للبقاء مرتفعة، وأن طريقها يسير في اتجاه واحد، وهو إلى الأمام فقط، الأمر الذي دفع نحو تبني ممارسات إنفاقية عالية تحولت إلى كابوس بعد التراجع في الأسعار طوال فترتي الثمانينيات والجزء الأكبر من عقد التسعينيات. فتلك الفترة حملت معها إلى جانب تقلص الإنتاج وبالتالي العائدات المالية عمليات تقشف طالت مختلف أوجه الحياة اليومية للكثير من المواطنين كانت لها تبعاتها.
عمليات التحوط في وضع التقديرات تتم في إطار سياسة القرش الأبيض الذي ينفع في اليوم الأسود، لأنها خاصة وفي مثل الظروف التي شهدتها السوق خلال العامين الماضيين ينتج عنها فائض مالي بسبب ارتفاع الأسعار من ناحية وزيادة حجم الكميات المنتجة من الناحية الأخرى.
اتباع مثل هذه السياسة يسهم في تقوية قدرة الدولة على إدارة شؤونها المالية، ويخفف من السيطرة التي تصاحب ما يطلق عليه بالمرض النفطي الذي يجعل الدول في حالة من الإدمان على مثل هذه العائدات التي لا تسيطر عليه في الغالب.
وإذا كان سعر البرميل قد أصبح قضية سياسية إلى جانب كونها اقتصادية، فإن حاجة المنتجين إلى العائدات المالية التي تقابل حاجة المستهلكين إلى توفير الإمدادات شكلت كلها أحد القواسم المشتركة التي تجعل من الطرفين في مركب واحد، لذا فكلما زادت سيطرة المنتجين على خططهم وسياساتهم المالية تحسنت فرص التعامل مع العائدات المالية، وتوفر لديهم الهامش الذي يسمح لهم بالتحرك دون ارتهان لحجم محدد من الإيرادات. لكن إلى أي مدى يمكن للدول المنتجة أن تقوم بتقليص حجم عائداتها أو إنتاجها بما ينتج عنه اضمحلال في العائدات وبدون حدوث انعكاسات سياسية أو اجتماعية؟! يظل سؤالا نظريا وإجابته تختلف باختلاف الدول. وقد يكون من السهل ضبط كيفية التصرف في حجم كبير من العائدات من التعود على إيرادات أقل قد لا تكفي حتى تسيير حاجيات الدولة.
هذا التناول المحافظ لوضع العائدات الذي شهدته بل ومارسته العديد من الدول الأعضاء في "أوبك" خلال العامين الماضيين، يمكن أن يشكل بادرة تضاف إلى سلسلة من الخطوات المتناثرة هدفت إلى تطمين المستهلكين وأن الإمدادات التي يحتاجونها ستتوافر لهم، وأنه في الوقت ذاته فإن المنتجين اعتمدوا لهم سياسات مالية وتقديرات محافظة بنوا عليها تقديراتهم لموازناتهم، وهو ما يتطلب دفعه إلى الأمام في اتجاه الوصول إلى حد أدنى من العائدات يتم تأمينه للمنتجين لمقابلة احتياجات بلدانهم من ناحية وللإنفاق على عمليات رفع الطاقة الإنتاجية للنفط الخام والتكرير خدمة لمتطلبات السوق. وهذا هو أحد عناصر الاستراتيجية بعيدة الأمد الذي يحتاج إلى دفعه إلى الأمام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي