رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


مجاز: تربية "انطم"

يغلب على حواراتنا ونقاشاتنا "الاتجاه المعاكس" صراخ ،استفزاز، واستخفاف وأحيانا شتائم مبطنة أو علنية. نقول: "الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" وهو يفسد فالمواقف محسومة سلفا. تلخصها مقاطعاتنا السليطة لبعضنا البعض. بكلمات قاطعة صادمة فنحن لا نتناقش وجها لوجه وإنما ظهرا لظهر.. فلماذا يحدث لنا هذا؟
لو بحثنا في إرثنا التربوي (الذي أصبح مشجبا لكل عاهاتنا وعجزنا عن مواجهة أنفسنا) لوجدنا سياقا زاخرا من الصد والقمع لرغبة التعبير عن الذات. فمنذ الطفولة يقال للولد: (صر رجال) ويقال للبنت (صيري مَرَة) في إصرار عجيب على سحق الطفولة في مهدها, وإذا حدث وأن تفوه الصغير بعفوية قيل له كلمات من نوع: "انطم" و"انكعم" و"كل تبن" ولو زودها صرخوا: "انقلع" أو "اقلب وجهك" و"طس فارق". ففي ثقافة العسر لم يكن مسموحا البتة للصغار أن يتجرأوا على الحديث في حضرة الكبار، أن يفكروا، أن يكون لهم رأي يدلون به. فهم دائما يطردون من المجالس أو ينفون إلى ذيلها. يكون حديث الكبار عاليا لكنه سرعان ما يخفت ساعة يدخل الصغار عليهم وكأنما كانوا يخوضون في أسرار كونية خطيرة. لذلك يكبر الأولاد، يصيرون آباء وأمهات فيحملون معهم فيروسات القمع والشطب والإلغاء.
لم يفلح التعليم في إطفاء جذوة التخلف فينا وعدم احترام آراء الآخرين، بل زادتنا ثقافتنا, معارفنا, وعلومنا، مع الأسف، شراسة واتخذناها أسلحة أشد مضاء للانقضاض على بعضنا البعض، حدث هذا لأن تعليمنا كان طريقا إجباريا ذا اتجاه واحد لا يتسع في المقابل إلا للصدى. أما الذين شفوا ونجوا بأنفسهم من شهوة التحطيم والمصادرة لأبنائهم أو لأندادهم من الكبار فقلة قليلة لا تفتأ تضبط نفسها بين الحين والآخر وهي تغمس أياديها في ذات المستنقع الكريه حين يرتج عليها أو تحرج.
مضى ردح من الزمن وثقافة الحوار تثير الريبة والشك، ينظر إليها على أنها جنوح وشذوذ، تحسب على أنها تعد على حرمة المجتمع وقيمه وأن السلامة تتمثل في "الباب اللي يجيك منه ريح سده واستريح" فبلعنا ألسنتنا، خاصمنا مشاعرنا، نفينا كلماتنا, أعطينا عقولنا إجازات طويلة. لذلك فلا غرابة ونحن أجيال تربية "انطم" وثقافة "وش دخلك" و"ما عندك سالفه" و"خل عنك" أن يصبح حوارنا صراع ديوك وكلماتنا ضجيج حطام حانوت للأواني الخزفية دهمه ثور هائج!!
نحن حديثو عهد في الحوار. وإذا كانت تأسرنا تلك الدماثة وذلك الحلم وطول البال التي نلحظها في تعامل الغربيين مع أطفالهم وفي النقلات الناعمة الممتعة في الحوار بين كبارهم ، فلا يعني أننا على أهبة الاستعداد للاحتذاء بهم أو تقليدهم، إنما فقط نجد فيهم فرصة للتخفف مما نعانيه من كربات تأنيب الضمير، وللتبرير لتعليق ذنب تناهشنا لبعضنا على مشجب المجهول المجرد: كالتربية، الثقافة، المجتمع، التعليم، الإعلام... كأنما هذه جميعا ليست صنع أنفسنا.
ولكي نشفى من مصادرة آراء بعضنا البعض، لا يمكن المراهنة على الوقت لأن ذلك أشبه ببيع للسمك في الماء. ما نحتاج إليه حقاً هو تغيير الاتجاه في النظر إلى أنفسنا وإلى العالم. فليس من المنطقي ولا من المعقول الاعتداد بأن نرى أنفسنا على صواب وإن غيرنا على خطأ. بل ليس معقولا ونحن أحفاد جدنا الفقيه الإمام الشافعي صاحب مقولة: (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب) قبل أكثر من ألف عام, ثم نهمل هذا النهج ونقصيه ونحن في فجر القرن الحادي والعشرين؟هل كان جدنا الآخر الشاعر دعبل الخزاعي يسخر منا حين قال:
"أني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا"
ياله من هجاء موجع، فهل نخيب ظن جدنا دعبل سامحه الله؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي