نداءات المزارعين إلى الملك.. وقفة تأمل (2 من 2)

استكمالا لما تحدثنا عنه في مقال الأسبوع الماضي حول النداءات الموجهة من بعض المزارعين إلى خادم الحرمين الشريفين, المتضمنة بعض المطالب, وإيماء إلى ما يدور هذه الأيام من أحاديث تتناول وضع الزراعة, ومنها ما ينادي بتقليل الاعتماد عليها متأثرين ببعض النتائج السلبية التي أفضى إليها الدعم غير المتوازن للزراعة في بعض المجالات, ومنها فقدان الجزء الأكبر من الثروة المائية التي تكونت عبر آلاف السنين, يقابلها أحاديث تطالب بعدم الالتفات كليا إلى ما يقال لأن الزراعة وجدت مع وجود الإنسان في هذه الأرض لكي تبقى ما بقي هو, ليس فقط مصدرا مهما من مصادر العيش لفئة كبيرة من السكان, بل مشهد انتماء وتوطن وبقاء.
وبين هذه وتلك يخرج المتابع المنصف بانطباع مفاده أن مثل هذه المواقف المتضادة ما كان لها أن تتولد لو أحسنا في الماضي التعامل مع الوضع الزراعي, بتوازن يشبه توازن الطبيعة في حفاظها على مكونات الحياة, توازن يجمع بين استمرار الدعم, مع تجنب ما قد يحدثه من آثار سلبية تأثر بها أهم عنصر لازم للزراعة وهو الماء, جعل البعض يطالب بما يطالب به. أما وقد حدث ما حدث ولا سبيل إلى استدراكه, فإن علينا أن نفكر بعمق في العواقب ونستفيد من هذا الدرس في تعاملنا مع الوضع كله.

الزراعة ضرورة

لكيلا يساء فهم بعض ما أرمي إليه أقول إن الزراعة بالنسبة إلى فئات كبيرة من المواطنين خيار لا بديل له, وفضلا عن أنها مهنة متوارثة من الأجداد للأبناء والأحفاد, فإنها تعد عامل ترسيخ للاستقرار والولاء, وتسهم في النمو الاقتصادي والناتج المحلي وتقطع الطريق على هجرة الثروة المالية للاستيراد من الخارج, وهي أفضل وسيلة لإحداث التوازن بين الإنتاج والاستهلاك في مختلف المناطق, فبعضها, أي المناطق, تكتفي ذاتيا, وبعضها تعطي ما يفيض عن حاجتها إلى مناطق محتاجة, وهذا ما نشهده في بعض الأسواق, فهذا منتج من جازان وذاك من تبوك, وذلك من الأحساء, ولا يوجد أفضل من هذه الصورة التي يكتمل فيها مشهد التلاحم والنفع المتبادل بين المنتج والمستهلك.

الزراعة ليست منتجا حقليا

إن المفهوم التقليدي للزراعة المنحصر في الزراعة الحقلية للحبوب والخضار والتمور قد تغير وتحول هذا المفهوم إلى أفق واسع يشمل الصناعة التحويلية للمنتجات, لضمان توافرها على مدار العام, بعد أن كان ذلك مرتهنا بالتقويم الموسمي وعرضة للتأثر بعوامل الطقس, والدليل ما نراه من منتجات متوافرة في الأسواق طوال العام مثل تعليب الخضار وتجميدها وتحويل الطماطم إلى منتج في شكل معجون جاهز وطازج, بعد أن كنا لا نراه إلا في علب حديدية مستوردة "الصلصة", كما يشمل صروحا اقتصادية تتمثل في صناعة الدواجن ومنتجات الألبان والعصير والأسمدة والمبيدات والمطاحن ومصانع المضخات ومستلزمات الري المحوري والري بالتنقيط, وحتى شبك الحماية والأكياس ومستلزمات التغليف أصبحت لها صناعات متقدمة لدينا.
وهكذا فإن الزراعة اليوم تعد سلسلة مترابطة من العمليات, يكمل بعضها بعضا, ويعتمد بعضها على بعض, وتتشابك فيها المصالح وتتداخل إلى حد أن حدوث خلل ما في قطاع منها يؤثر سلبا في بقية الأنشطة, وهذا هو المقصود بالمحافظة على عملية التوازن والاتزان.

المحافظة على المياه ضرورة

إن المحافظة على ما تبقى من الثروة المائية, وهو قليل, أمر في غاية الأهمية, وهي أمانة في ذمة الجيل الحالي أمام الأجيال المقبلة, والمحافظة لا تتم عن طريق منع أو الامتناع عن زراعة منتج معين إذا كان هذا المنتج يستطيع المنافسة في ميدان العرض والطلب, بيد أن ترشيد المياه واستخدامها بحذر وبالقدر الضروري أمر لازم, ويمكن أن يأتي ذلك ضمن عدد من الإجراءات التحوطية والاحترازية, منها:
ـ التركيز على المجالات والأنواع التي تقتصد في استهلاك الماء, وفي مقدمتها الزراعة المحمية في البيوت المغلقة, فهذا النوع من الزراعة ثبت جدواه ونجاحه, وتوفيره الماء بشكل لا يقارن بأساليب الزراعة الأخرى, فضلا عن تميزه بالإنتاج الغزير النظيف الخالي من الأمراض, ومن ثم ينبغي التشجيع عليه, والتوعية بأهميته وزيادة الدعم له.
ـ تشجيع استخدام نظام الري الأنبوبي أو الري بالتنقيط بعد أن ثبت نجاح هذا النظام في توفير الماء والمحافظة على خصوبة التربة والحد من نمو الحشائش وتكون الآفات. وأرى أن يصل التشجيع إلى حد الإلزام والرقابة ثم فرض العقوبات, بعد تثقيف المزارعين وتنويرهم عن مزاياه, التي منها, إلى جانب ما ذكرناه, انخفاض تكلفته وطول عمره وتوفيره الواضح في تكاليف العمالة, وأن يغطى بالقروض الميسرة حتى على مستوى المزارع الصغيرة في المناطق والأرياف البعيدة.

التسويق علة العلل

إن تسويق المنتجات الزراعية من المزارع إلى المستهلك هو الحلقة الأضعف والمفقودة والمؤثرة سلبا في الزراعة, فالمزارع يتعب في إنتاج محصوله, يبذل فيه جهده وماله, وينقله إلى الأسواق لكي يفاجأ بخيبة الأمل المتمثلة في إلزامه بتصريفه والحراج عليه جملة في دقائق معدودة. وتكون النتيجة اضطراره تحت وطأة سوط المحرج إلى بيعه للشريطي بثمن ربما لا يساوي التكلفة المادية والمعنوية لمرحلة واحدة من مراحل الإنتاج. وكنت قد أشرت في المقال السابق إلى شهادة عيان لمستها خلال زيارتي إحدى أسواق جلب المنتجات الزراعية.
إن تسويق المنتجات الزراعية بحاجة إلى وقفة تأمل تأخذ في الاعتبار إنصاف المزارع من جور الفئة الوسيطة, وتضمن إحقاق الحق أو بعضه, بضمان حصول المزارع على المقابل الحقيقي الذي يساويه إنتاجه, وبما يزيل عنه الشعور بالغبن والإحباط.
وفي يقيني أن إصلاح الوضع لا يتم بما قيل منذ سنوات أو يقال الآن, عن إنشاء شركة أو شركات مساهمة عامة برؤوس أموال ضخمة للتسويق الزراعي, مازالت فكرتها حبيسة الأوهام, ولنا في تجربة شركة ثمار أبرز مثل. إن الأمر يحتاج إلى شركات ضخمة برساميل كبيرة, فماذا تصنع الشركة بتلك الأموال؟ هل تنفقها في امتلاك مقار أم في الاستئجار أم في بناء المصانع وأساطيل النقل؟ حتى وإن كان ذلك ممكنا, فإن رساميل كتلك ستضعف قدرتها على تحقيق وتوزيع الأرباح, كما حدث لشركات أخرى, في وقت تستطيع فيه الشركة تحقيق ذلك كله عن طريق الاقتراض.
إن الأنسب والأفضل أن يكون التسويق عبر جمعيات تعاونية زراعية يملكها ويديرها المزارعون أنفسهم, في القرى والأرياف, تتسلم المنتجات من المزارعين وفق رغبتهم, وتقوم بتصريفها عن طريق مقر رئيسي لها في كل قرية ومدينة, وبالتوزيع على منافذ الاستهلاك مثل البقالات, ومهما تكن الأسعار التشجيعية التي ستصرّف بها الجمعيات المنتجات فإن حصيلتها بالنسبة إلى المزارع ستكون أفضل بمراحل مما يجري حاليا, علاوة على أن دور الجمعيات لن يكون قاصرا على تصريف المنتجات بل سيمتد إلى مجالات أخرى كتأجير المعدات الزراعية للمزارعين وفق حاجتهم إليها, بأسعار منخفضة بدلا من الوضع الحالي الذي يضطر فيه المزارع إلى امتلاك معدات ربما لا يحتاج من طاقتها إلى أكثر من 10 في المائة.
وقد كانت الجمعيات التعاونية موجودة قبل أكثر من ثلاثة عقود, وكانت رغم محدودية إمكاناتها تقوم بأعمال مفيدة للمزارعين, بيد أنه قضي عليها بالأنانية, وحب التملك والطفرة غير المتوازنة التي أفضت إلى توفير إعانات وقروض تغطي قيمة المعدات, كان من شأنها أن أغرت المزارع بتملك كل أنواع المعدات حتى لو كانت حاجته إليها جزئية. وقد انتبهت الحكومة إلى ذلك في وقت متأخر حين أدركت أن إغداق الدعم غير المتوازن قد أفرز سلبيات تمثلت في تكدس كل منتجات العالم من المعدات لدينا, وتعرضها إلى التلف في الصحارى وعلى الطرقات وفي الأرياف, بحيث أضحت من شواهد الهدر الاقتصادي. والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي