للوطنية معنى مختلف

أسهم الثقل السياسي الكبير للقيادة السعودية على المسرح العالمي في خروج السعودية بأقل قدر من الالتزامات في وثيقة انضمام السعودية إلى منظمة التجارة العالمية، ما قلل كثيرا من تبعات تأخر انضمام السعودية إلى اتفاقية الجات ووريثتها منظمة التجارة العالمية التي لم يعد بالإمكان البقاء خارجها. إلا أن من أبرز ما اشتملت عليه وثيقة الانضمام، فيما يخص التزامات السعودية بفتح قطاعات الخدمات أمام المستثمرين الأجانب، هو اشتراط نسبة سعودة قدرها 75 في المائة على المنشآت الأجنبية التي سيسمح لها بمزاولة نشاطها في السعودية بنسبة ملكية للشريك الأجنبي تصل في بعض القطاعات إلى 75 في المائة، وهو شرط يحمد للفريق التفاوضي نجاحه في الحصول على موافقة عليه. فقد كان من الممكن أن تصر الدول المفاوضة، وفق مبدأ المعاملة الوطنية وعدم التمييز، على أن تتم معاملة المستثمر الأجنبي معاملة المستثمر الوطني، بحيث لا تتجاوز نسبة السعودة المطلوبة تلك المحققة فعلا من قبل المنشآت المملوكة لمستثمر وطني في القطاع نفسه. فما يسمى تجاوزا "المنشآت الوطنية" لم يحقق معظمها سعودة تعادل حتى جزء بسيط من هذه النسبة، ولا يزال معظمها يختلق مختلف الأعذار الواهية لتفادي تحقيق أي قدر مقبول من السعودة، بل وتلجأ في أحيان كثيرة للتلاعب من خلال السعودة الوهمية.
ما يستدعي البحث عن معايير مناسبة لإلصاق صفة الوطنية على منشأة أو مُنتَج ما. فمجرد كون المنشأة مملوكة لمواطن سعودي ومقامة داخل السعودية لا يؤهلها تلقائيا لحمل صفة الوطنية ويجعل من الدفاع عن مصلحتها جزءا من أولوياتنا الاقتصادية. فالوطنية لا تُستحق بمجرد الحصول على أرض مجانية أو برسوم متدنية من الدولة، وقرض ميسر جدا من صندوق التنمية الصناعية قد تزيد قيمته على التكلفة الفعلية للمصنع، ثم تشغيله بالكامل بعمالة أجنبية مستقدمة، وإنما تكتسب صفة الوطنية بمقدار مساهمة المنشأة الإيجابية في اقتصادنا الوطني. أي أن صفة الوطنية يجب أن ترتبط بحجم فرص العمل المتاحة للعمالة الوطنية في المشروع، وبمقدار مساهمته في تنمية النشاط الاقتصادي في محيطه الاجتماعي والبيئة التي تحتضنه، وبمساهمته الاجتماعية غير الهادفة للربح التي تأتي تقديرا من مالك المشروع للرعاية والدعم الذي قدمته له الدولة والمجتمع، وأخيرا من خلال مساهمته في دعم الخزانة العامة بما يدفعه من رسوم وضرائب. من غير ذلك، فإنه لا يوجد فرق بين مصنع يملكه مواطن سعودي مقام في الهند وآخر في السعودية، فمساهمتهما في الناتج الوطني الإجمالي للسعودية متماثلة تماما، بل إن كانت إقامة المصنع في الهند تحقق أرباحا أعلى لمالك المشروع فإن مساهمته في ناتجنا الوطني الإجمالي ستكون أكبر.
إنني عندما أتسوق في أحد محلات السوبر ماركت الكبيرة التي افتتحت حديثا في السعودية, الذي يبدو من اسمه أنه امتياز لشركة أجنبية وأرى عددا كبيرا من الشباب السعودي يعمل هناك لا أملك إلا أن أتعجب ممن يتباكون على المنشآت الصغيرة التي ستتضرر من انضمامنا إلى منظمة التجارة ويتحدثون عن الحاجة لدعمها وزيادة مصادر تمويلها، بل وتعقد الندوات والمؤتمرات حولها، وتنشأ المراكز الهادفة لتنميتها، بينما تلك المنشآت لا تعدو كونها أوكارا للتستر والغش التجاري توظف معظم العمالة الأجنبية في السعودية وهي تعتمد عليها بشكل كامل ويندر أن تجد مواطنا يعمل فيها. وإن كان من بين ما سيترتب على انضمامنا إلى منظمة التجارة إغلاق وتبخر تلك الأوكار بدخول شركات أجنبية إلى سوقنا المحلية يشكل السعوديون 75 في المائة من عمالتها، فإن اختفاء المنشآت الصغيرة ليست إحدى سلبيات الانضمام وإنما من أبرز مكاسبه.
إن مستثمرا أجنبيا التزم فعلا بنسبة سعودة لا تقل عن 75 في المائة ستكون منشأته أجدر بأن توصف بالوطنية من منشأة يملكها سعودي وتعتمد بشكل شبه تام على العمالة الأجنبية، وفوق ذلك يعتقد بتفضله علينا بإقامة مشروعه في بلادنا. إن ما تشكله القيمة المضافة العائدة لعناصر الإنتاج الوطنية من إجمالي القيمة المضافة التي يحققها المشروع هي المقياس الوحيد المناسب لمدى وطنية المشروع من عدمه. فمصنع يملك معظم أسهمه مستثمر أجنبي نسبة ما يعود لعناصر الإنتاج الوطنية من قيمته المضافة أكبر من نسبة ما يعود لعناصر الإنتاج الوطنية في مصنع يملكه مستثمر سعودي، هو أجدر وأكثر استحقاقا لأن يوصف بأنه مصنع وطني يستحق الدعم والتشجيع. ووفق هذا المقياس الدقيق جدا لحقيقة مساهمة كل منشأة في اقتصادنا الوطني، سنفاجأ بوطنية منشأة أجنبية 75 في المائة من عمالتها سعودية وتدفع لخزنة الدولة 20 في المائة من أرباحها ضرائب، وعدم وطنية منشآت طالما تشدقت بوطنيتها وجدارتها بالدعم والحماية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي