عرض "أوبك" الجديد
قامت منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" بخطوة جديدة لدعم مساعيها تجاه تهدئة الأسواق من ناحيتي ضمان الإمدادات, خاصة مع اندياح عواصف الشتاء في نصف الكرة الشمالي والدفع في اتجاه خفض الأسعار من معدلها الحالي. والخطوة الجديدة تسعى إلى تمكين الدول المستهلكة من بناء مخزوناتها وتوفير احتياطي في المخزون يصل إلى 56 يوما من الطلب.
هذه نقلة جديدة تتقاطع مع الزمان الذي كانت فيه مخزونات الدول المستهلكة تمثل بعبعا للدول الأعضاء في "أوبك" عليها تجنبه والسعي قدر جهدها واستطاعتها ألا يحصل المستهلكون على الكميات التي تجعلهم في حالة استغناء عن المنتجين. وللمخزون تحديدا ذكريات مريرة تتمثل في أنه تم استخدامه في أوقات سابقة وسيلة ضغط لخفض الأسعار وحمل "أوبك" حملا على الاستجابة إلى مؤشرات السوق الحرة. وربما كان أوضح مثال على هذا ما شهدته فترة مطلع عقد الثمانينات عندما كان المنتجون مطالبون بضخ كميات كبيرة من الإمدادات، مع أن مؤشرات العرض لم تكن تبرر هذا النمو في الطلب، واتضح لاحقا أن المستهلكين الذين عانوا إبان فترة الثورة الإيرانية استفادوا من الدرس واتجهوا إلى بناء مخزوناتهم التي أصبحت فيما بعد سيفا مسلطا على المنتجين وهيكل الأسعار الذي كانوا يدافعون عنه. وهو الدرس الذي وعاه المنتجون وأصبحوا يراقبون تطورات نمو المخزون بصورة لصيقة، وكان هذا أحد المؤشرات في رفع السقف الإنتاجي أو خفضه بعد أن عادت أوبك إلى سياسة تعظيم العائدات المالية إثر التخلي عن استراتيجية زيادة حصة المنظمة في السوق.
ومع أن خطوة "أوبك" هذه تعتبر جديدة ونقلة في هذا الاتجاه، إلا أنها تأتي في النهاية في إطار سلسلة من الخطوات الهادفة إلى تطمين السوق قامت المنظمة باتخاذها بمختلف الطرق خلال العامين الماضيين. فهناك الرفع المتكرر للسقف، والتخلي عمليا عن الحصص الإنتاجية وإتاحة الأمر أمام الدول الأعضاء للإنتاج بأقصى طاقة متاحة لهم، ثم جاء قرار أيلول (سبتمبر) الماضي عندما قررت "أوبك" إتاحة مليوني برميل يوميا لتكون برسم المستهلكين متى احتاجوا إليها وبدون حاجة إلى الاجتماع مجددا للبحث في كيفية رفع السقف أو غير ذلك من جوانب إجرائية.
والآن تأتي خطوة المساعدة على بناء المخزون في مفارقة لافتة لتراث قديم كان ينظر إلى المخزون دائما نظرة شك، وفي إطار مسعى لتحقيق الهدف الصعب التحقيق الخاص بالوصول إلى حالة من الاستقرار للسوق النفطية لفائدة طرفي المعادلة من منتجين ومستهلكين.
وإذا كانت خطوة طرح مليوني برميل يوميا لتكون متاحة أمام المستهلكين أدت دورها فيما يتعلق بتهدئة السوق دون الحاجة إلى السحب من هذه الكميات، الأمر الذي يشير إلى عظم تأثيرها النفسي، فإن الخطوة الجديدة سيكون لها دورها الفعلي في إحداث المزيد من الطمأنينة للمستهلكين وللأسواق، يؤمل أن ينعكس على الأسعار، التي بلغت مبلغا بدأ يثير قلق المنتجين، ناهيك عن المستهلكين.
على أن الخطوة تستدعي ملاحظتين: تتعلق الأولى منهما بالسؤال الخاص إلى أي مدى يمكن لـ "أوبك" أن تراقب بناء المخزون بصورة دقيقة وألا يفلت منها الزمام فتصبح هذه الإمدادات التي ستذهب إلى المخزون وسيلة للضغط على الأسعار. والنقطة الثانية تتمثل في المقابل السياسي أو الاقتصادي الذي يمكن أن تحصل عليه "أوبك"من باب تعاملها هذا مع المنتجين وانتقالها من مرحلة ومسؤولية تلبية طلباتهم بضخ المزيد من الإمدادات لمقابلة الطلب إلى مرحلة تهدئة المخاوف.
فمعدل الأسعار الحالي ليس هو بالعالي للدرجة التي تثير المنتجين والمستهلكين، والاقتصادات العالمية أثبتت قدرتها على امتصاص الأسعار العالية التي شهدتها السوق حتى الآن. وعليه يصبح التساؤل عن المعدل الذي يمكن أن تستقر عليه الأسعار إذ في ضوئه ستستقر معادلات عديدة. ثم أن فصل الشتاء يفسح المجال ليخلفه الربيع ووجود كميات من المخزون أكثر من الحاجة يمكن أن تكون أكثر ضررا خاصة إذا لم يكن هناك ترتيب لكيفية استيعابها وحماية حصة المنتجين من الإمدادات.
على أن السؤال الأكبر يتعلق بالمقابل الذي ستحصل عليه "أوبك" تجاه هذه الأريحية التي أبدتها تجاه السوق عموما والمستهلكين عموما خاصة الدول الغربية التي تملك مفاتيح عديدة تهم الأعضاء في "أوبك". وللغربيين عموما تراث وتقاليد في أنهم لا يعطون شيئا مجانا ولوجه الله، لذا كان من الأجدى أن تكون هذه الخطوات في إطار برنامج تبادلي يقوم بموجبه المستهلكون بمراعاة بعض الطلبات التي تتقدم بها "أوبك"، وعلى رأسها كيفية العمل سوية على إنجاز استقرار السوق. وهو هدف لا يخص "أوبك" وحدها، لكن يشمل المستهلكين أيضا. الخطوات التي قامت بها خلال فترة صعود الأسعار الحالية يمكن اعتبارها بكل بساطة خطوات عملية لبناء الثقة، وبقي الأمل أن يتم تطوير هذه الخطوات إلى برنامج عمل واقعي، وهو ما يتطلب بداية أن تتفق "أوبك"على برنامج محدد تطرحه على المستهلكين مستفيدة من حالة التوازن التي تعيشها السوق ويعود الفضل فيها إلى "أوبك"، عل وعسى أن يحدث اختراق في جبهة حوار المنتجين والمستهلكين.