إلى أن يمضي هذا العالم؟!
هل أصبحت مفاهيم: الأمة، الشعب، الدولة، بحاجة إلى إعادة تعريف؟ يبدو أن الأحداث التي عصفت بالعالم منذ انفراط منظومة الكتلة الشرقية وبزوغ الاتحاد الأوروبي بأعضائه الـ 25 المفتوح على المزيد تجعل السؤال في مكانه الصحيح وتجعل الإجابة، أي إجابة، تدفع لبروز المزيد من الأسئلة.
فقد كان يقال عن هذه الأمة أو تلك، المبررات التي تشعل الحروب والأناشيد والحماس والشرور أيضا، ويضرب بعظمتها وتفوقها المثل أو يضرب بخفتها ووضاعتها مثل معاكس للسابق، الأمر نفسه يقال عن شعب من الشعوب أو دولة من الدول. ثمة دائما رغبة في أحكام اعتباطية إجمالية تشمل ولا تمايز. والصحيح أن الإشادة بالأمة والشعب أو الدولة وكذلك الحط من شأنها غالبا ما يستظل بشعارات أيديولوجية، معها يضمر ذكر الأمة أو الشعب أو الدولة أو يتم تكبيرها بها.
تأملوا الأوج والصيت المدوي الذي ملأ الدنيا لألمانيا بسمارك أو ألمانيا هتلر أو ألمانيا اليوم، يابان ميجي أو يابان اليوم، إيطاليا موسليني أو إيطاليا اليوم، بريطانيا العظمى وبريطانيا اليوم، فرنسا نابليون وفرنسا شيراك، الاتحاد السوفياتي وجمهوريات روسيا المستقلة اليوم. صين الجنرالات وصين ماو وصين اليوم، إمبراطورية البهارات الأمس وهند وباكستان وبنجلادش اليوم، وهلم جرا.
كانت حدود ومفاهيم الأمة والشعب والدولة تذوب بفعل القوة العسكرية من أجل قوة اقتصادية كاسحة فانقلبت المعادلة، أصبحت القوة الاقتصادية لقوة عسكرية رادعة. رمز هيبة فقط، من أجل هذه القوة الاقتصادية تنازلت الأمم والشعوب والدول عن نعراتها وهوسها العاطفي العصامي القديم.. فإلي أين يمضي هذا العالم؟
لم يعد بمقدور الأمة بذاتها، الشعب بذاته، الدولة بذاتها نقل الخطو للسير في مضمار وحدها. لم يعد للمضمار الواحد وجود، خلطت العولمة وفضاء الإنترنت والاتصالات المضامير بعضها بالبعض، أتاحتها للجميع، ولم يعد بمقدور الأمة الركض وحدها فالطاقة تستنفد ما لم تكن الأمة مندمجة دوما بأمم أخرى، والشعب بشعوب والدولة بدول. الاندماج تنازل عن سيادات ومفاهيم كانت. تمت إحالة الهوية إلى هويات أخرى لتصبح هوية جديدة ليست هي الأمة أو الشعب أو الدولة التي كانت. أوروبا الموحدة مثالا، فلم يعد بمقدور اليونان أن تصر على مناصبة العداء لتركيا ولا أن يظل عداء تسعة قرون قائما بين المجر ورومانيا ولا الحساسية والكراهية بين ألمانيا وفرنسا ولا الصراع بين إيرلندا وبريطانيا ولا أي دولة أوروبية لجارة لها في دولة الاتحاد الأوروبي الجديد.
دستور أوروبا المعوق حاليا قد لا يذيب الدول ولا ينظف ما تراكم في أغوار شعوبها من أوهام العظمة الذاتية في غضون سنوات، لكن يقينا أن قناعات مختلفة كليا سوف تهطل من سماء دستور أوروبا، حين يشفى من إعاقته، وأن فكرة "الأوربة" سوف تستوطن أذهان الأوروبيين أنفسهم.
لقد تعذر حدوث مثل هذا الشعور الجمعي تحت سطوة الكرملين فلم تنصهر شعوب الاتحاد السوفياتي بقدر ما تعمقت في ظلام النفس الكراهيات المتبادلة. كذلك لم يستطع الفوهرر هتلر ولا الدوتشي موسليني خلق قناعة بهوية عاقلة. ولم يستطع عبد الناصر ولا ميشيل عفلق ولا معمر القذافي إلا تكريس الكراهية لمشاريع الوحدة العربية.
قد تكون تجربة الاتحاد الأوروبي القادمة من التوافق والاتفاق على قيم العمل والحرية واحترام الحقوق الإنسانية واتخاذ الحوار والنقاش والتفاهم وسائل لتعزيزها، قد تكون هذه التجربة (إذا قدر لها ضرب المثال الناجح) إيذانا بميلاد مفهوم جديد للأمة والشعب والدولة. ليست تلك التي عرفناها منذ صخب الإمبراطوريات إلى هدير الوحدات، بل لا نقطع كيف ستكون، ربما لتنتقل البشرية كلها إلى الذوبان إلى ما هو أبعد من مثال الاتحاد الأوروبي، هل نقول "اللا أمة" "اللا شعب" "اللا دولة" أم عود على بدء؟