العودة إلى أجواء قديمة
<a href="mailto:[email protected]">asidahmed@hotmail.com</a>
النزاع بين فنزويلا وشركات النفط الأجنبية على تطبيق القانون الجديد الذي يطلب من تلك الشركات إفساح المجال أمام شركة النفط الوطنية الفنزويلية لتملك حصة أغلبية في عقود الحقول التي تديرها تلك الشركات، يعيد أجواء السبعينيات إلى الصناعة النفطية إلى حد ما ومع الفارق.
ففي مطلع عقد السبعينيات تمكنت الدول المنتجة من كسر هيمنة الشركات، وأصبحت تلعب دورا رئيسيا في تحديد الأسعار ومن ثم السيطرة بفعالية على صناعتها النفطية، عبر مختلف الصيغ التي تلخصها حالات التأميم في دول والمشاركة في دول أخرى، ولو أن النتيجة كانت واحدة في النهاية وهي سيطرة الدول المنتجة على مفاصل الصناعة النفطية في بلدانها.
ولم يكن ليحدث كل هذا لولا أن السوق كانت سوق بائعين، كما يطلق عليها. فبسبب الطلب المتزايد وارتفاع الأسعار، أصبح للمنتجين كلمة فيما يتعلق بشؤون الصناعة لم تكن لهم من قبل، ووصل الأمر إلى تحديد السعر من طرف واحد عام 1973 من قبل المنتجين والانتهاء وإلى الأبد من إشراك الشركات في هذه العملية، إذ ظلت عملية تحديد السعر بيد منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" حتى فرضت قوانين العرض والطلب إرادتها وأصبحت السوق هي المهيمن، بينما تتدخل "أوبك" أحيانا لتثبيت نطاق سعري معين والعمل على الدفاع عنه، وهي مهمة تفشل فيها أكثر مما تنجح.
فترة الطفرة تلك التي استمرت حتى مطلع عقد الثمانينيات وفرت للمنتجين فرصة للتعويض عن سنوات طويلة كان وجودهم فيها على هامش الصناعة، رغم أنهم أصحاب الحق في النفط الذي يستخرج من أراضيهم، لذا كان الاندفاع في اتجاه تأكيد ذاتيتهم واستقلاليتهم مع إحساس قوي بأن رياح السوق ستظل تهب لصالحهم، وأن أمام الأسعار طريق واحد فقط للسير فيه: أن ترتفع دائما وأبدا.
وكان هذا هو المقتل الذي أدى إلى بروز منتجين جدد لا يتقيدون بسعر رسمي في بحر الشمال وآلاسكا، ثم بدأ التباطؤ في الاستهلاك وبروز حالة التخمة التي فرضت على "أوبك" فيما بعد القيام بأول خفض علني لسعرها الرسمي، الأمر الذي دفع إلى التآكل المستمر في حصتها في السوق، حتى انتهى بها الأمر عن قصد أو دونه إلى حرب الأسعار والعمل على زيادة حصتها في الإمدادات العالمية.
لقرابة أربعة أعوام ظلت الأسعار في حالة تحسن مطرد، الأمر الذي دفع برياح قوية في أشرعة الدول المنتجة لتعود السوق لصالح البائعين مرة أخرى، وهو ما تعبر عنه البرامج الطموحة لزيادة الطاقة الإنتاجية في العديد من الدول، ثم الموقف الحاد الذي بدأت تتخذه فنزويلا تجاه بعض الشركات الأجنبية العاملة لديها. ولو أن الموقف الفنزويلي يتمتع بخصوصية، إذ تحكمه الأوضاع السياسية في البلاد وعلاقاتها المتوترة دائما مع الولايات المتحدة، أكبر مستهلك للنفط في العالم، فهل ينسحب هذا الموقف على بعض الدول المنتجة إن لم نقل المنظمة ككل؟
ولا ينسى هنا الدور المحوري الذي لعبته فنزويلا البعيدة في تأسيس "أوبك"، وهي منظمة ثقلها الرئيسي لمنتجي منطقة الشرق الأوسط في الأساس، أو الدور الذي لعبته في عقد السبعينيات في الدفع باتجاه سيطرة الدول المنتجة على مقادير صناعتها النفطية.
لكن وبغض النظر عما يمكن أن تحدثه التطورات الفنزويلية من تأثيرات على الآخرين، يبقى من المهم الاستفادة من دروس الماضي. وعلى رأس هذه أن السوق مهما ارتفعت فهي مرشحة للتراجع مرة أخرى ما دامت محكومة بقوانين العرض والطلب.
ومع اندياح موجات التخصيص، فإن الأسعار أصبحت أكثر استجابة لهذه المتغيرات مما لو كانت تسيطر عليها الحكومات سواء في جانب المنتجين أو المستهلكين. وهناك أيضا تجارب الشركات الوطنية التي أعطيت مسؤولية الإشراف على الصناعة النفطية في الدول المنتجة، ولم يكن أداؤها بصورة عامة جيدا ما عدا بعض الاستثناءات مثل "أرامكو السعودية"، التي كانت للمفارقة آخر شركة وطنية تسيطر بالكامل على مفاصل الصناعة النفطية في بلادها، فالصناعة تحتاج إلى تقنية واستثمارات وإدارة راشدة قادرة على التخطيط والمتابعة.
حصيلة الأداء في سنوات الانبعاث الوطني النفطي لم تكن جيدة بصورة عامة، وإلا لما فتح الباب مرة أخرى أمام عودة الشركات الأجنبية تحت مختلف الصيغ، من عقود إعادة الشراء إلى تقديم الخدمات إلى السماح بالعمل مباشرة في ميدان العمليات الأمامية من استكشاف وتنقيب وتطوير وإنتاج.
وعلى كل فإن القضية ليست فتح الباب أو إغلاقه أمام الشركات الأجنبية، لأنه في زمن العولمة والتخصيص وثورة الاتصالات ومنظمة التجارة الدولية الساعية بجد نحو تقليل الحواجز بين الدول، يكاد مثل هذا الطرح يصبح أكاديميا، وإنما كيفية وضع هذه التطورات في الاعتبار واحتلال مقعد في عالم اليوم والحفاظ عليه من خلال الاستخدام الرشيد للثروة النفطية.