تحدي إنشاء صندوق للنفط
خطة التنمية الثامنة التي أقرها مجلس الوزراء السعودي الأسبوع الماضي تضمنت دعوة لإنشاء صندوق حكومي لضمان استقرار الإيرادات النفطية ومواجهة تقلبات أسعار النفط العالمية. وهو إجراء حقق نجاحا منقطع النظير في النرويج، وهي ثالث دولة مصدرة للنفط بعد السعودية وروسيا، إلا أن تطبيقا مماثلا بالدقة والكفاءة نفسها في دول أخرى مصدرة للنفط يمثل تحديا كبيرا لتلك الدول، باعتبار أنها قد لا تكون مستعدة للتقيد بمتطلباته كاملة. النجاح النرويجي يعود إلى وعي وإدراك كاملين على المستويين الشعبي والرسمي لحقيقة كون عوائد إنتاج النفط الخام لا تمثل "إيرادات حكومية" وإنما هي مجرد عملية تحويل أصول طبيعية إلى ثروات مالية، لذا لا يمكن النظر إليها على أنها حق طبيعي للجيل الحالي، بل يلزم مشاركة أكبر عدد ممكن من أجيال المستقبل في الاستفادة منها، واستخدامها مباشرة في تمويل الإنفاق الحكومي الاستهلاكي يشكل تبديدا لها وتقصيرا مخلا في تحمل المسؤولية الأخلاقية حيال أجيال المستقبل.
وكان أول تحويل نقدي لصندوق النفط النرويجي قد تم في عام 1996م، إلا أن موارده نمت بسرعة كبيرة جدا بحيث وصلت في الربع الثاني من هذا العام إلى ما يزيد على 190 مليار دولار أمريكي أو ما يعادل 65 في المائة من الناتج المحلي النرويجي. ويتولى البنك المركزي النرويجي إدارة الصندوق ووفق قواعد وضوابط دقيقة ملزمة سعيا إلى تحقيق أكبر عائد على رأس المال وفقا لقواعد محددة. والتي من أهمها: قصر استثمارات الصندوق على الأسهم والسندات الأجنبية فقط، وتحديد دول معينة بنسب محددة يتم الاستثمار فيها على أن يستثمر ما بين 50 إلى 70 في المائة من موارد الصندوق في السندات ونحوها من الاستثمارات مما يحد من درجة الخطورة في معدلات الفائدة، وألا يزيد ما يستخدم سنويا من موارد الصندوق في تمويل الإنفاق الحكومي على نسبة 4 في المائة من قيمة موجودات الصندوق أو متوسط العائد على موارد الصندوق على المدى الطويل، ما يضمن قدرة الصندوق على تمويل الإنفاق الحكومي على المدى الطويل دون استهلاك أصوله.
وبشكل عام يمكن إجمال أهم المكاسب الاقتصادية التي حققتها النرويج من إنشاء هذا الصندوق في التالي:
1 - أسهم في خلق ثقافة مدركة لحقيقة أن عائدات النفط لا تعدو كونها قيمة أصول طبيعية تم تسييلها، ما يستدعي بذل كل جهد ممكن لاستثمارها بكفاءة وقصر التمويل الحكومي منها على عوائد توظيفها فقط.
2 - الحد من حدوث تذبذبات حادة في النشاط الاقتصادي تبعا للتغيرات في التدفق النقدي الناتج عن تقلبات أسعار وإنتاج النفط الخام، وهي التذبذبات التي تعاني منها كافة الدول الأخرى المصدرة للنفط بسبب اعتماد اقتصاداتها على الاستخدام المباشر لإيرادات النفط في تمويل الإنفاق الحكومي.
3 ـ تجنيب الاقتصاد المحلي الاعتماد المبالغ فيه على إيرادات النفط، لما يترتب على ذلك من إضعاف لقدرة قطاعات الاقتصاد الأخرى على المنافسة خاصة تلك القطاعات المكشوفة أمام المنافسة الخارجية.
4 ـ إن نظام الصندوق الذي يقصر استثمار موجودات الصندوق على الأصول الأجنبية ويحظر عليه الاستثمار محليا، يجنب السوق المحلية الضغوط التضخمية والمضاربات غير الصحية في السوق المالية المحلية، كتلك التي شهدتها السعودية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، كما يسهم في استقرار سوق الصرف الأجنبي. فنمو تدفقات النقد الأجنبي إلى البلاد تبعا لزيادة الإيرادات النفطية يقابله زيادة في التدفقات الرأسمالية إلى الخارج من خلال الصندوق، ما يوفر آلية تحد من تضخم غير مقبول في العرض النقدي محليا.
5 - إن قصر استثمارات الصندوق على الأصول الأجنبية يمنع من دخول الدولة منافسا قويا على فرص الاستثمار المحلية، كما هو الحال بالنسبة لصندوق الاستثمارات العامة في السعودية، ما يزيد من فرص الاستثمار المحلية ويحد من تدفق الاستثمارات الوطنية إلى الخارج ويزيد قدرة الاقتصاد المحلي على استقطاب الاستثمارات الأجنبية.
وإن كانت دولة يتصف اقتصادها بالتنوع والتقدم وقادرة على المحافظة على مكتسباتها الاقتصادية بحكم إمكانياتها الضخمة حتى من دون إيراداتها النفطية، استشعرت مع كل ذلك مسؤولياتها الأخلاقية حيال أجيالها المقبلة، فإننا في السعودية أحوج ما نكون لإقامة مثل هذا الصندوق وفق قواعد مماثلة، فاعتمادنا الكامل على إيراداتنا النفطية في ظل نمو هائل في عدد السكان، يجعل من غير الممكن أن تكون الموارد المتوافرة بعد نضوب النفط قادرة على مواكبة احتياجاتنا بأي مستوى مقبول.