حركوا راكد المخزون وسددوا مرحَل الديون
بعد أسابيع قليلة من الآن ستعلن الميزانية العامة وبعدها تسلم كل وزارة مخصصاتها. ومن المتوقع أن تكون خطة الصرف قد جهزت على ما حدد من بنود لمشاريع ومشتريات على مدار العام، إضافة إلى الرواتب والبدلات. من الطبيعي أن تبدأ بعض الإدارات بتجهيز المنافسات أو طرحها أو فتح مظاريفها. كما تبدأ أخرى في تجهيز المواقع لبداية المشاريع أيا كانت ويبدأ الرصد لمراقبة ومتابعة الإنجازات والصرف والمخزون. ومن أهم الأجهزة في كل وزارة ولا تلقى اهتماما أبدا والتي لا يعول على وضعها الكثير هي المستودعات، حيث تعتبر وعاء الرجيع أو مخزن الأدوات والمستلزمات لا أكثر، بل للأسف قد تكون ملاذ أو أشبه بإدارة تجميد للموظفين الذين اختلفوا مع هذا المسؤول أو ذاك وأصبحوا من المغضوب عليهم. بالرغم من أن المستودعات إيداع وسحب مالي مهول (باعتبار أن لكل مودع قيمة مالية) إلا أن النظرة لها لم تبلغ مفهوم أهميتها الاقتصادية لكل جهاز.
من المعروف أن لكل وزارة ولكل مرفق أو منشأة تابعة لها مخازن ومستودعات لتخزين الرجيع أو حفظ الأدوات والمستلزمات أو المعدات والمعاملات لحين توزيعها أو التصرف فيها حسب متطلبات العمل، ولكن لو تم عمل حصر دقيق لها ولموجوداتها، يكاد يكون مستحيلا في القطاعات الخدمية أن يعلم المسؤول الأول ما حجم الموجودات في المخازن والمستودعات التابعة للقطاع الذي يقع تحت مسؤوليته. وإن تجاوزنا أنه "يعلم" فهل يمكن تحديد عمر هذه الموجودات؟ ثم هل هناك خطة لتدويرها والاستفادة منها أو جزء منها لصالح الأجهزة التابعة للقطاع؟ وإذا ما درس الاحتياج وحدد حجمه لاستخدام المخزون حسب الحاجة، فهل سيكون هناك مخزون راكد؟
نظرا لأن صحة ودقة المعلومات في غياب استخدام التقنية تشوبها كل الشوائب فليس لنا إلا أن نقوم بعمليات حسابية افتراضية لعلنا نصل إلى حجم المشكلة، وبالتالي يقودنا لاقتراح حلها، فلو افترضنا أن عدد الوزارات الخدمية عشر وزارات على أقل تقدير. ولو أن للوزارة 13 إدارة فرعية حسب المناطق الإدارية، لكل إدارة فرعية مستودع رجيع ومستودع تخزين متحرك الموجودات، إضافة إلى أن لكل وزارة مستودعا واحدا تابعا للجهاز المركزي على أقل تقدير أيضا، فهذا يعني أن هناك 270 مبنى مستخدما كمستودع أو مخزن للوزارات العشر. ولصعوبة أن تكون هناك مبان مؤسسة لهذا الغرض في كل وزارة بهذا العدد فإن هذا يعني أن تقوم الوزارة بالاستئجار، الأمر الذي يعني أن هناك ما بين (30 في المائة ـ 50 في المائة) من مجموع المباني تقريبا مستأجرة والتي تتجاوز مبالغها نحو 15 مليون ريال. يضاف إلى ذلك قيم عقود النظافة ومخصصات الترميمات التي تدرج في ميزانية كل عام، إضافة إلى قيم التجهيزات الخاصة ببعض أنواع المخزون. أما ما خفي فهو الأعظم، حيث يصعب تقدير قيمة الموجودات التي إما أن تكون ألوفا أو أن تصل لملايين الريالات في أكثرها وهذا يصور مدى المفارقة في دفع إيجار لمبنى لا تساوي محتوياته شيئا قياسا بقيمة الإيجار، وأن تهدر أو تجمد ملايين الريالات في مبنى غير مناسب أو مؤهل لحفظها أصلا. إن المشكلة أعمق من أن تحسب تكاليفها بهذه البساطة التي ذكرت سابقا، خصوصا إذا ما علمنا أن للوزارات اختصاصات تجعلها تتنوع في أنواع مخزونها فمنه الصلب أو السائل أو الغازي ولكل حالة أصناف عديدة جدا, ولكل صنف تاريخ صلاحية واشتراطات تخزين وما إلى ذلك من أمور لا يتسع المقام لذكرها فيما يتعلق بالمخزون وإجراءات تخزينه. ولا ننسى أن السيارات وعربات النقل تترك أو تخزن في معظم الأحوال في أراض مفتوحة وبالطبع معرضة للشمس والحرارة والأمطار، وهذه مئات الملايين من الريالات تهترئ و(تكهن) في مكانها.
الألم الآخر وهو الأهم: القوى العاملة، فمع أنها تشهد هذه الأيام صحوة تطويرية شكلية ليست حقيقية، إلا أن من يقومون بالعمل في المستودعات وإداراتها يشكون الأمرين أو أنهم يشتكون من وضعهم، ولكن كيف لنا أن نعلم إذا لم يتم وضعهم تحت المجهر؟
إن كفاءة هذه الفئة من الموظفين محدودة جدا (قد يستثنى المدير والرئيس المباشر)، فهم مهملون ودون حوافز أو تدريب لمستوى النظرة لمثل هذه الإدارة ومنسوبيها. كما أن إجراءات التدقيق التي تتم حاليا يدوياً عادة ما تستغرق شهورا عدة لا تلبث أن تنتهي بغرق المراقبين في متابعة جانبية أو تكليفهم بأعباء أخرى ونعود بعدها إلى نقطة البداية. وهكذا تمر السنون دون تحقيق أي إنجاز ولو حتى إعداد قاعدة بيانات بالحصر تساعد في البدء بخطة تقنين الصرف وخفض نسبة الهدر أو إلغائه تماما.
لئلا تكون الطروحات نظرية وكعادتها تفقد الفائدة منها بمجرد الانتهاء من قراءتها، فلا بد أن تعد دراسة أهم أهدافها انتشال المستودعات والمخازن من واقعها الحالي إلى الوصول بها لوضع يوفر كل هذه الأموال المفقودة كل عام والتي ستظل تفقد على حساب ميزانيات الأجيال المقبلة التي تحتاج كل وزارة إلى كل ريال فيها. قد يكون وضع الخطة وآلية التنفيذ مربط الفرس, حيث إن لكل وزارة خصوصيتها، ولكن لأن الموضوع لا يحتاج إلى مفسر أحلام، فيمكن مبدئيا تبني ما قامت به إدارة مستودعات مرافق هيئة الجبيل وينبع أو ذات الإدارة في شركة أرامكو اللتين اعتمدتا تصاميم نموذجية للمستودعات وغرف التخزين لكافة أنواع المخزون. وقد أصبح لديها مخازن نموذجية تم ربطها كاملة بشبكة حاسوب تشغل المستودعات بنظام ممكن بالكامل. أدى ذلك إلى تحقيق وفرة مالية ضخمة، وتحويل نسبة من المخصصات لتطويرها وسرعة إنجاز معاملات الشراء والتوزيع والتخزين. كما تم تقليص العمالة على المختصين والمدربين على العمل فيها، وأصبح الحصر السنوي والدوري يتم آليا بشكل فاق التوقعات. فلماذا لا تتخذ قدوة ويُحتذى بها؟ إذا كان ذلك صعب الحال وبعيد المنال فقد يلجأ إلى إيكال المهمة إلى شركات متخصصة للقيام بذلك العمل وينقل هؤلاء الموظفين على قوة هذه الشركة، ولكن لا بد من عمل الحسابات الدقيقة لضمان حفظ الأموال العامة ومستقبل القوى العاملة أولا، وتحقيق رفع مستوى الأداء والإجراء للوصول به للجودة ثانيا.
إن الأموال المجمدة في هذه المخازن أو المستودعات تراكمت وستتراكم إن استمر إهمالها بهذه الطريقة وستجد الجهات أنها في وضع يُرثى له من حيث قلة الاعتمادات وانتهاء العمر الافتراضي للأدوات والتجهيزات. وإذا ما أرادت هذه الجهات تقديم طلبات شراء جديدة وتم رفضها، فبالطبع ستلجأ إلى المناقلة بين البنود وترحيل الديون وتتعقد عندها المشكلة عاما بعد عام ولدينا المزيد من الأعباء تنتظرنا وتحتاج إلى رصد تكاليف جديدة لها. لذلك لا بد من وضع خطة تطويرية شاملة يكون قطف ثمارها خلال عام أو اثنين على الأكثر، لئلا نتجمد ونثقل بالأعباء والعالم من حولنا طليق ومتسارع الحركة.