عمَ يتحاورون
توصيات اللقاء التحضيري للقاء الوطني الخامس للحوار الفكري (نحن والآخر) تبدو جُمل مفيدة قابلة للإعراب فيها مبتدأ وخبر وتحتوي على مصطلحات من وزن (تفعيل وتبني وتأكيد). اللقاء الذي عقد الأسبوع الماضي بحضور 60 محاورا ومحاورة من العلماء, المفكرين, والمثقفين من المفترض أنه نادى بالانفتاح على الغير والحوار مع مختلف الثقافات والديانات. الأهم من ذلك أن يكون اللقاء قد نادى بضرورة تأسيس العلاقة بالآخر بمبدأ الاحترام المتبادل. أعتقد جازماً أن "الحوار مع الآخر" لم يعد ترفاً فكرياً بل محوراً أساسياً في صلب علاقاتنا الداخلية قبل علاقاتنا بالآخر. لعل المتحاورين قد تبنوا منهجاً معتدلاً يشجع على التعددية والتنوع الثقافي والفكري بمبدأ أن سياسة المصالح المشتركة هي من أهم ركائز العلاقات الإنسانية.
في المحور الشرعي ناقش المتحاورون الأسس الشرعية للتعامل مع الآخر وطُرحت رؤى تعتمد على الأصول الشرعية رغم اختلافها في التطبيقات. أتوقع أن جملة من المفاهيم قد نوقشت في إطار القواعد المتعارف عليها لتحليل أسباب تحجير الفكر وتكفير خلق الله. أعتقد أن حوارنا مع الآخر يجب أن يتسع لكل حضارة إنسانية مهما كانت أبعادها الطائفية أو الدينية أو الفكرية. بل أكاد أجزم أن الجانب الجدلي في ديننا الحنيف لم يأمر بإخراج أحد من جزيرة العرب أو بجلد المفكرين بسبب ودون سبب أو تعليم الأطفال كيف تُغَسَل الأموات أو نبذ الثقافات والحضارات. الإسلام لم يضع شروطاً تعجيزية للحوار لأنه يخاطب العقل والقلب ويدعو للتواصل مع جميع الحضارات.
أما في المحور الثقافي والحضاري, فلعل المشاركين قد ناقشوا أهمية الحوار بين الحضارات لكونه قيمة جوهرية للتقارب والتفاهم بين الشعوب. أوافق تماماً مع التوجه القائل إن الحوار يشكل محوراً أساسياً في أبنيته ومضامينه وممارساته. ولعل المتحاورين قد أكدوا على أهمية تواصل وتعميق الحوار مع الحضارات والثقافات الأخرى والبحث عن نقاط الالتقاء والمشترك الإنساني. وقد لفت انتباهي ما ذكرته إحدى المشاركات من أن "لا نهضة لنا إلا إذا اعترفنا بحقوق المرأة الشرعية". وأستغرب هنا إقصاء المرأة عن اللجنة الوطنية للطفولة وآمل ألا يتكرر هذا التصرف عند تأسيس مجلس الأسرة, فالمرأة هي الأقرب للطفولة والأسرة. إيجابياً، أعتقد أن الإعلان بأن المرأة ستدير معاهد البنات التقنية هي خطوة متأخرة إلا أنها نقلة نوعية مضادة للفتاوى الاقصائية النمطية لنصف المجتمع. ولعل من أنجح تجاربنا الثقافية ندوة المثقفات السعوديات في كولورادو الأسبوع الماضي تحت مظلة جمعية "أصدقاء السعودية" حيث تألقت نخبة مميزة من المواطنات، وكذلك إبداع الشاعرة السعودية نعمة النواب في إيصال الثقافة السعودية للعالم.
لا أستغرب إذا كان المحور السياسي والاقتصادي قد عصفت به مناقشات جادة عبر دهاليز الوعي السياسي تأكيداً لضرورة الانفتاح على الغير. من سخريات القدر أنه بعد أن كان الإسلام هو حليف الغرب أيام الحرب الباردة ضد الشيوعيين، فإن بعض السياسيين الغربيين يصورونه اليوم على أنه العدو الأول للحضارة الغربية. كذلك عمدت بعض وسائل الإعلام الأجنبية لترسيخ بعض الصور النمطية المشوهة عن المملكة وتصويرها على أنها بلد يفرخ الإرهابيين. طبعاً علينا الاعتراف أن "غزوة مانهاتن" لم تكن في صالحنا، فقد عَمَقَتْ هذه الجريمة الإرهابية - سواء شئنا أم أبينا - الفجوة بيننا وبين الغرب بدعوى أن هناك من (الإسلاميين المتشددين) من يدعون للعنف والإرهاب وجز الرقاب ولا بد أنكم تعرفون بقية الأسطوانة.
قبل أن ننعت الآخرين بأبشع الصفات ونتهجم عليهم علينا أولاً القضاء على العوامل التي قد تجعل من مجتمعنا ومدارسنا مجالاً خصبا للتحريض على العرب والمسلمين بغض النظر عما إذا كانت نظرية المؤامرة هي التي تغذي هذا التحريض، علينا نحن المبادرة بتقصي أمور بيوتنا ومناهجنا وبعض منابرنا. علينا نحن أولاً التأكد أننا فعلاً نؤسس منهجاً وسطيا معتدل الجوانب يحترم التعددية ويرحب بالتنوع الثقافي والفكري. كل الدلائل تشير إلى ضرورة قيام مؤسسات المجتمع المدني ومنحها مساحة أكبر من الحرية الفكرية لتشجيع الحوار بضوابط تراعي مصالح الوطن. لا بد من تأسيس العلاقة بالآخر على الاحترام والثقة فالتنوع هو مصدر إثراء تقدم الإنسان.
اقت...صاد
سألت بوحمد عما إذا كان مصير مقررات وتوصيات اللقاء الخامس سيكون نفس مصير مقررات اللقاءات التي سبقتها، فقال: خلك متفائل فالتكرار يعلم الشطار.