تناقضاتنا المحزنة
نحن نعيش حياة المتناقضات، رضينا أم أبينا، زيّنا صورنا أمام من يعرفنا أم لم نفعل، وقد يصبح من الصعوبة علينا أن نقول إننا لا عيب فينا، ومن يصل لذلك فإنه وقع في داء الغرور، ولعل الذي يرى غير ذلك ينطبق عليه قول الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
نعم إنها قمة التناقضات التي تعصف بنا, يجمّل بعضنا صورته بالكلام المعسول، بعبارات جذابة مع الآخرين، فإذا دخل إلى منزله تحول إلى وحش كاسر، لا يستطيع أحد من أسرته محادثته، اختفت كلماته المختارة وعباراته المبهرجة وظهر بوجه آخر. تناقض عجيب في تجميل الصورة أمام الآخرين وإدخال السرور عليهم ومع أسرته شخص آخر, يدخل الحزن في قلوبهم, ليس ذاك الأب البشوش, إنه صائد البسمة وقاتلها وسط أسرته، وذاك المعلم صاحب الكلمات المنمقة لا يمل الطلاب من سماع كلامه، يحثهم على مكارم الأخلاق وعلى طاعة الوالدين، ويظهر السمات الحسنة، وفجأة تفوح رائحة وسط بيئته المدرسية يكتشف طلابه أنه شخص آخر خارج المدرسة فزوجته تسيطر عليه ولا يستطيع أن يعصي لها أمرا, لذلك فهو قاطع لوالديه من أجلها فلا يزورهما إلا خلسة .. إنها قمة التناقض.
لقد قتل ذلك المعلم حالة الانبهار للطالب الذي كان هو القدوة الحسنة له في وصايا بر الوالدين، وحالة أخرى لشخص متفوق وبارع في مجال عمله يقدم المعلومات الثمينة ويتناول مثاليات يجعلها مشخصة في حاله وأنها روح التفوق والتقدم في ساحة الحياة ثم يكتشف المتلقي خور هذه المثاليات وتطبيقها في حياة من يعبر عنها فيكون لها وقع غير جيد, وربما تكون الصدمة القاتلة في حياة المتلقي المليئة بالمثاليات والعبارات الجذابة والكلمات ذات الديباج المعزز للثقة التي كان يتلقاها من معلمه، لكنها ربما ذهبت من حياته أدراج الرياح عندما يشاهد التناقضات قد وجدت طريقا عابرا نحو صاحب المثاليات. وتلك الفتاة الشابة المعجبة بأمها بلا هوادة فهي المثال الحسن في كل تصرفاتها, وكل فتاة بأمها معجبة، فتنشأ تلك الفتاة على تتبع كل صفة جميلة تراها في أمها، لكنها في لحظة ضعف اكتشفت عيبا لم تكن تود أن تراه في أمها وذلك في الخفاء، اكتشفت أن والدتها لا تحسن التعامل مع جاراتها وتسيء لهن فكانت وصاياها لابنتها بالاتسام بالأخلاق الطيبة مع الجيران تذهب من غير رجعة. وصورة أخرى لذلك الداعية المفوه يتنقل من مكان إلى آخر رغبة في الدعوة بالتي هي أحسن يفيد الناس ويبحث عن الأسلوب الأمثل ليجعله نهجه، لكن قمة التناقض لديه في المعاملة الخاصة لمن يعرفه فهو عكس تلك المثاليات التي يقدمها، إنه شخص مختلف تماما لا يمكن أن يتخلص منه المتعامل معه إلا بشق الأنفس، فهو رجل آخر يختفي كلامه المنمق وعباراته الرنانة وهو مثال سيئ لنفسه, ومن على هذه الشاكلة عليه مراجعة نفسه حتى لا يكون هذا التناقض ديدن حياته، وسأواصل الحديث عن متناقضات أخرى بين الوقت والآخر.
نسأل الله أن يقينا وإياكم الوقوع في مثل هذه التناقضات، وأن يحاول من يجد شيئا منها في حياته التخلص منها، وليس على ذلك ببعيد.