رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


شاعر النيل حافظ إبراهيم والاقتصاد

منذ نحو نيف من الزمان كنت في زيارة إلى قاهرة المعز بصحبة أخى وزميلي الأعز الشيخ الدكتور محمد بن علي القري، ومررنا بسور أزبكيتها الشهير حيث سوق (روبابيكيا) كتبها العتيقة, أمارس وإياه هواية تأمل واقتناء القديم من مخرجات المطابع. وأخذنا نقلب فيما هو معروض على جنبات تلك الأرصفة فوقع نظرنا على كتاب في الاقتصاد مترجم من الفرنسية إلى العربية عمره أكثر من 90 سنة.
كان الكتاب يتألف من خمسة أجزاء, وكان بحالة جيدة جدا على قدمه, وأوراقه سليمة كأنها طبعت بالأمس. ولا تسل عن جودة الطباعة فإنها مذهلة! مع أنه مطبوع في مطبعة المعارف في شارع الفجالة عام 1331 هجرية (1913 ميلادية) ! ويبدو من غلاف الكتاب أن نظارة (وزارة) المعارف العمومية آنذاك قررته في مدارسها, ولم يتضح لي إن كانت مدارس عادية أم مدارس عليا!
لكن أكثر ما استرعى انتباهنا وأسرنا هو اسما مترجمي الكتاب! لقد كانا علمين من أعلام اللغة والأدب حافظ إبراهيم وخليل مطران!
أنقل إلى القارئ الكريم اليوم مقتطفات من بعض فصول هذا الكتاب كما هي, بصرف النظر عن الموضوع, فالغرض هو تأمل روعة الصياغة وجمال الأسلوب الأدبي في موضوع اقتصادي, ذلك الأسلوب الذي صاغه عن الفرنسية عملاقا الأدب العربي في القرن الماضي حافظ إبراهيم وخليل مطران.
تحدث مؤلف الكتاب الفرنسي بول لاروا بوليو في الفصل الأول من الجزء الرابع من الكتاب عن التأمين وضروبه المختلفة. وكانت ترجمة عملاقي الأدب العربي الفقرة التي بدأ بها المؤلف كلامه, على النحو التالي: "من المحدثات التي تسهل الادخار تسهيلا كبيرا شركات التأمين, والتأمين آية من أعجب الآيات التي ابتكرتها الفطنة لتطبيق مبدأ التبصر قوامه أن يبحث عن طائفة من الناس متعرضة لنوع واحد من المحذورات, وأن يتعاقدوا على أداء وزيعة (وديعة) يعين مقدارها, تبعا لما يدل عليه سابق الاختبار, من متوسط التلف الذي يُخشى وقوعه, وأن يُخص ما يجتمع من تلك الوزيعة بالتعويض التام على المُعاقد الذي يصاب بالمكروه المذكور في الاتفاق".
وفي الفصل الثاني من الجزء الرابع من الكتاب تحدث المؤلف عن " النفائس "أقتطف بعضا منها كما صاغ الأديبان الكبيران ترجمتها عن الفرنسية على النحو التالي: "أول أمر يصرف إليه الإنسان فضول قوّته المنتجة, إنما هو استزادةُ ما يستنفده وما يستمتع به، خصوصا إذا كان من النفائس. وعلى قدر ما يتحضر المجتمع تنتشر النفائس بين طبقات الناس.
والنفيس هو الشائق من الكساء ومن مائدة الطعام ومن الرياش, والوفرة من الأشياء ذات الرونق والروعة. والاستنفاس هو اتخاذ شيء كمالي يتجاوز ما يعده السواد الأعظم من سكان الإقليم ضروريا, لا للمعاش وحده بل لزينة الحياة وأدبها.
لو أصاب أجنبي من الذين غزوا الإمبراطورية الرومانية أثاث بيت من بيوت العامة المتيسرين, أو العمال المتقنين, في هذه الأيام, لاستنفس كل شيء فيه: من تكآت زهيدة الأثمان لكنها مكسوة (تكآت: جمع تُكأة وقد كانت هذه ترجمة الأديبين لكلمة فوتيل الفرنسية), ومن بُسط لُبدية, ومن أستار نوافذ, ومن ورق مزوّق تُغشّى به الجدران, ومن مرآءٍ, ومن قصاع متنوعة, ومن أقمصة, ولَماَ اعتقد أن واحدا من تلك الأشياء المستجدة عليه ضروري ٌ للمعيشة, ولا مما تستلزمه زينتها أو أدبها . فالتصور القائمة ُ عليه النفائس يتغير ويتنوع تبعا للديار والآناء والطبقات الاجتماعية, وكل واحدة من هذه الطبقات تعد في النفائس ما لا تمكنها حالتها من الحصول عليه, في حين أن الطبقة التي تفوقها ثروة, آخذة منه بالحظ الذي تريده.
وإذا عظم التقدم الصناعي وعم اليسار فهما يردان إلى الاستعمال الشائع, ما كان معدودا من أخص النفائس. لقد كان من النفائس السُكّر, وزجاج النوافذ, وسجوف الكُوى (أستار النوافذ), وصنوف النمارق (البسط) وساعة الجيب, والجوارب والمناديل. وكان منها في باب السكنى: انفصال الحوطة (غرفة الطعام) عن المطبخ, واستقلال ردهة الضيوف عن غرفة الطعام, وافتراق حجرة الزينة عن مقصورة النوم, وكذاك الحمام, والمرحاض المجلوب إليه الماء المتوافر فيه النور والهواء!
فغايات النفائس تتباعد بلا انقطاع, وكل مستنفس بالأمس آيلٌ في الغد إلى الابتذال, أو صائر بعد العلو إلى دُنو المنال.
ولسنا ممن يكرهون النفائس لاعتقادنا أنها من أكبر بواعث النجاح البشري, وأن الإنسانية ممتنة لها بكل ما نتخذه اليوم حلية للحياة, فضلا عن معظم الإصلاحات التي اتسقت معها أسباب الصحة.
لا جرم أن من الناس من يسيء استعمال النفائس ويتبجح بها: أولئك هم الذين يحاولون أن يبهروا الأبصار ويذلوا الجمهور. لكن الأدب الخلقي يقضى قضاءه وعلى تلك القِحةِ الأثيمة التي تتظاهر بها الثروة على ما يحيط بها من الفاقة. غير أن هذه الفئة من المعجبين بنفائسهم تنقص شيئا فشيئا, ويتناقص معها بالتدرج ذلك السفه الذي كان عليه الرومان, أيام انحطاطهم, في تبديد الأرزاق.
ولقد أصبح السواد الأعظم من أرباب الجاه على نقيض هذه الخطة: فهم لا يعرضون نفائسهم في الطرقات وبين الجماهير, بل يرخون عليها الأستار فيحبسونها داخل بيوتهم ويحتشمون أن يتظاهروا بها تظاهرا جارحا للذين لا يستطيعون الحصول علي ما يشاكلها".
وللقارئ الكريم أن يتأمل لماذا عد فقهاء الجرح والتعديل في الشريعة الإسلامية الأكل في الشوارع من منقصات المروءة, ولا يقبل لصاحبها شهادة لعظم شأنها عندهم!
ثم ينهي المؤلف فصله عن النفائس بقوله كما ترجمه الأديبان الكبيران: " ليست مسألة النفائس إلا مظهرا من مظاهر مسألة أوسع منها وأعم: مسألة التفاوت بين الناس .
ولقد ثبت أن تساوي الطبقات لو تحقق في مجتمع, لثبط فيه الهمم, وعاد بأهله إلى النعاس الفكري, والحرمان الحسي, الذي عاشت فيه شعوب الأزمنة الأولى. فإذا مُنعت النفائس كانت النتيجة في هذا الحد من الجسامة أو دونه بقليل. والدين وأدب النفس يأخذان على الإفراط في النفائس, وتجاوز الاعتدال في استعمالها, لإزالة تلك الِقحةِ التي يتظاهر بها المفاخرون بما عندهم, ويرشدان إلى توخي الغايات المعنوية العليا, وترك هذه السفاسف الدنيا. لكن الخطأ الأساسي في جانب الاقتصاد أن يعمد إلى إبطال النفائس". انتهى كلامه !
أعود بين حين وآخر إلى مطالعة هذا الكتاب لأتعلم منه كيف يكون أدب الاقتصاد .! لكني أتوارى خجلا عندما أرى كيف كان مستوى الكتب الدراسية في زمن حافظ إبراهيم .. حافظ الذي نعى اللغة العربية في زمانه, ماذا سيقول لو كان بيننا اليوم؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي