رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


دفتر الحضور

غريب, عجيب, مدهش هو "دفتر الحضور" في الدواوين الرسمية. يمكن أن يصبح موضوعا فنتازيا رائعا كرواية أو مسرحية. فهو الشغل الشاغل والهم المقيم في الشعور واللاشعور عند جموع الموظفين.
يضع المسـؤول الأول في أجهـزة الدولة له خطـة وسدنـة وحراسا ومفوضا يقـوم مقامه لرعايتـه والعنايـة بـه والحـرص على دوره والانضبـاط لمواقيته والدقة في الانصياع لنظامـه.
دفتر الحضور عملاق قاسي الملامح غامض الهوية, يثير الرعب في قلوب الموظفين, يدفعهم من أسرّة نومهم مهرولين يخطفون ثيابهم على عجل, يكرعون أقداح قهوتهم وقوفا وينهشون خبزهم في الطريق إلى السيارة ثم يمضون إلى قيادة عرباتهم في حمى من القلق والتوتر. أذهانهم مسكونة بـ "دفتر الحضور" تجعلهم يدوسون على مكبس الوقود, يخوضون حرب شوارع تتخللها خطط لاختصار المسافة عبر هذا الطريق أو ذاك, وعبر غض الطرف عن قوانين المرور والإشارات الضوئية واقعين تحت ضغط تهديد ووعيد عيون دفتر الحضور التي تخترق المدى, فإذا هي تتطاير شررا تثير القشعريرة وتجعل الفرائص ترتعد خشية أن يأخذ السدنة الدفتر إلى مفوضه وترفع الأقلام وتجف الصحف.
بطل خرافي هو دفتر الحضور, ديكتاتور وطاغية جبار, صامت ناطق, يخشاه الجميع فمنه وإليه يعاد الحساب عن قيمة الموظف ويحكم من خلاله على حسن السلوك والمثالية والانتدابات والترقيات, حتى لو كان الموظف بليدا هامدا يمضي نهار عمله في التثاؤب وشفط فناجين الشاي!!
لكن ليس دفتر الحضور هو كذلك لكل الموظفين في الأرض. هناك اختراقات تتم رغما عن سطوته وجبروته. أبرزها عين الرضا من قبل المدير لموظفه. ولا دخل للكفاءة والجدارة في العمل في هذه الحالة. هذا الرضا يتكفل بالإعفاء من التوقيع أو بإتاحة الفرصة السرية للتوقيع ولو بعد حين.
بعض الموظفين وجدوا طرقا أخرى لاختراق جبروت دفتر الحضور, منها مخاتلة السدنة والمفوض والتوقيع نيابة عن بعضهم البعض سواء في الحضور أو الانصراف, والبعض الآخر سلك طريق الدبلوماسية مع السدنة والمفوض, بقليل من المداهنة وشيء من العزف على وتر التحسيس بالأهمية والنفخ في نرجسية السدنة أو المفوض تنزاح الأحكام العرفية الصارمة في إدارة دفتر الحضور ويتاح لمن حظي بموافقة السدنة أو المفوض الخلاص من رعب الحضور في المواعيد المحددة الصارمة والتوقيع ساعة يشاء وفق استراتيجية "شيلني وشيلك".
ولدفتر الحضور سمعة وهيبة, لا ينقطع الحديث عنه في الأروقة والمكاتب والمكالمات الهاتفية: (جاء الدفتر, ذهب الدفتر, أين الدفتر؟) ناهيكم عن صيحة الروع حين ينادي المنادي آخر الدوام:"الدفتر!!" فإذا الموظفون يتدافعون عليه زرافات ووحدانا!!
هذه الرهبة والعراك النفسي العصيب مع وحول وبسبب دفتر الحضور تخفي في الواقع قصصا إنسانية أخرى, لو نطق دفتر الحضور وأنبأنا بما يراه ويحسه ويسمعه مع كل يد تمتد نحوه للتوقيع لأبكانا وأضحكنا, فمع كل توقيع حكاية شخصية مغمورة في وجدان صاحبها فقد يكون الموظف في مأزق أسري أو مادي أو لديه حالة مرض أو حادث أو مصاب جلل. قد يكون في نكد مع رئيسه أو مع زملائه أو مع المؤسسة التي يعمل فيها. وقد يكون على العكس من ذلك مرحا غردا مملوءا بالغبطة والمسرة. وحتما هناك حالات أخرى متنوعة بين الكمد والحسرة وبين الإحساس الغامر بالسعادة.
تصوروا لو حكى لنا دفتر الحضور ما يراه ويحسه ويسمعه لقدم لنا ملحمة بشرية مذهلة حقا, تقف إلى جانب ملحمة بطولته وديكتاتوريته وجبروته والأمر في الحالين يطرح سؤالا: لماذا أُخترع دفتر الحضور؟ هل لأن الإنسان لا يثق بنفسه؟ أم هو تواق إلى وضع الأغلال في يديه؟ البيروقراطيون يقولون: لو خليت لخربت. وثقافة العمل العصرية تقول: لو كان ثمة عمل حقيقي له قيمته ويجد الموظف نفسه فيه لأصبح دفتر الحضور نسياً منسياً ولكن هيهات!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي