"النيجر جيت"

لم يقهقـه العالم برمتـه منــذ حادثـة الرئيس السوفياتــي (خروتشــوف) الشهيــرة عندما فاجأ الجميع بقرعه الطاولة في مجلس الأمن بالحذاء, بيد أن الرئيس جورج بوش الابن منح العالم فرصة ذهبية ثانية اليوم وهو يأمر بمحاضرات إجبارية لموظفي البيت الأبيض عن الأخلاق!
هل صدق أنه منذور لهداية البشرية إلى الديمقراطية بالقوة (أسميتها في مقال سابق الديموكتاتورية"). كيف إذاً تجاهل طريقة وصوله إلى سدة الرئاسة من خلال فرمان محكمة عليا كان والده هو من قام بتعيين قاضيها وطبخت اللعبة في ولاية (فلوريدا) التي يحكمها أخوه (جيب) وتنطح للوقوف إلى جانبه محاميا عنه وزير خارجية والده "جيمس بيكر" وحسمها لصالحه بكلمة دهاء, لا كلمة حق: "ليس بإمكانك تغيير شروط اللعب".
الواقع أن نكتة محاضرات الأخلاق مجرد وصفة سياسية بائسة يراد بها إطفاء حريق فضيحة أسلحة الدمار الشامل وما اسميه شخصيا "النيجر جيت" تيمنا بالأمجاد الفضائحية الأمريكية النبيلة من "ووتر جيت" إلى "الكونترا جيت" فـ "مونيكا جيت" فقد ثبت أن موظفا أرعن اسمه (لويس ليبي) كان مساعدا لديك تشيني نائب الرئيس بوش الابن قد حمل في نفسه ضغينة (أو تم تحميله لها) منذ التحضيرات السرية لخلق مبررات لغزو العراق حيث أخذ الحديث يعلو عن وجود أسلحة دمار شامل عند صدام حسين وأنه يسعى للحصول على مواد نووية من النيجر, وهو ما نفاه السفير جوزيف ويلسون آنذاك في تقريره الرسمي.
ولأن الضغينة لا تهدأ إلا بالثأر والانتقام فقد قام لويس ليبي بتسريب اسم عميلة المخابرات المركزية الأمريكية (فاليري بليمه) لتلطيخ وإيذاء سمعة عائلة السفير جوزيف ويلسون, لأن العميلة هي في الواقع زوجة السفير المذكور.
لكن مسار الأحداث كان أكبر من أن يتم ترقيعه بمحاضرات عن الأخلاق وسرية المهنة. ولا حتى بدسائس إعادة الحديث عن قانون محاسبة السعودية فقد اشتعلت حرب فضيحة "النيجر جيت" في الصحف الأمريكية وداخل مجلس الشيوخ وطلب هاري ريد زعيم الديمقراطيين في المجلس بتغيير جدول الأعمال إلى مناقشة قضية تلاعب إدارة الرئيس بوش بمعلومات المخابرات المبررة لغزو العراق فاضطر المجلس للرضوخ وعقدت فعلا جلسة استثنائية سرية لكن تسربت قطرات زيتها على نار الفضيحة إضافة إلى قطرات زيت كلمات كولن باول عن إحساسه بالعار لتعرضه للخديعة من قبل الإدارة جعله يقول كلاما ملفقا في مجلس الأمن عشية التحضير لغزو العراق.
وإذا شئنا استقصاء مبررات نكتة الأخلاق البائسة لا نجد, بعد غزو العراق واحتلاله, أشد شناعة من جرائم التعذيب في سجن أبو غريب وفضائحه الجنسية, وسجون أمريكا السرية والحديث عن تورط كل من نائب الرئيس ووزير الدفاع رامسفيلد فيها.
لا بد أن (لويس ليبي) قد تتلمذ على رئيسه (تشيني) الذي قال عنه (برنت سكو كروفت) مستشار الأمن القومي السابق: "إن الشذوذ الحقيقي في الإدارة يتمثل في ديك تشيني", وما برحت أصداء فضيحة إفلاس شركة "أنرون" لا تعفيه من الذكر, ولم يعد خافيا أنه كان حاضراً في عقود النفط مقابل الغذاء وأنه ابن الشركة المسؤولة عن مشاريع تعمير العراق ومدينة نيو أورليانز, أليست هذه ملامح أخلاقية للإدارة فوق الأخلاق؟! مثالها وصف بوش الإرهابي شارون برجل السلام؟ ونكثه الوعد الذي قطعه بإقامة دولة فلسطين؟ وازدواج المعايير في إقامة الدنيا على المفاعلات النووية لكوريا الشمالية وإيران بينما لم ينبس بنبت شفة عن ترسانة إسرائيل النووية؟!
وماذا يمكن تسمية كلمات مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة والرئيس كارتر ورمزي كلارك وزير العدل السابق, والسيد ويلسون مساعد كولن باول وسكوكر وفت وغيرهم الذين تحدثوا عن الانحطاط والفساد والفوضى في إدارة بوش الابن إن لم تكن مرثية في مأتم الأخلاق!
ويبدو أن سوءات أخلاقية أخرى ستنكشف وأن أطرافا كثيرة سوف تتورط وتنجر إلى "فضيحة النيجر جيت" والأيام المقبلة قد تجعل منها حديث الدنيا, وقد تتحول إلى كرة ثلج خرافية تتدحرج إلى أن تطيح برؤوس كثيرة في إدارة بوش, هذا ما لم تطوله هو.. فباب الجحيم قد انفتح.. وورق سلوفان محاضرات الأخلاق أوهى من أن يصمد للشرر الذي بدأ يتطاير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي