بيرنانك وجرينسبان: سياسات مختلفة لهدف واحد
منذ خمس سنوات كتب بين بيرنانك مقالاً نشره في "الوول ستريت جورنال" عنوانه: ماذا سيحدث عندما يذهب جرينسبان؟ الجواب جاء على لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي بإعلان ترشيح بيرنانك نفسه لخلافة جرينسبان لأحد المناصب القيادية المؤثرة ليس فقط في مسار الاقتصاد الأمريكي ولكن أيضاً في مسار الاقتصاد العالمي. تثار تساؤلات كبيرة حول مقدرة بيرنانك على ملء الفراغ الذي سوف يتركه في الأول من شباط (فبراير) رحيل مهندس الاقتصاد الأمريكي ألان جرينسبان. حصل بيرنانك المولود في ولاية جورجيا على درجة 1590/1600 في اختبار الـ SAT, الأمر الذي أهله لدخول "هارفارد" والحصول على درجة الاقتصاد ومن ثم الحصول على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا MIT . عمل استاذاً في "ستانفورد" ومن ثم رئيساً لقسم الاقتصاد في "برينستون" وقبل تعيينه في حزيران (يونيو) 2005 رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي عمل بيرنانك عضوا في مجلس الاحتياطي الفيدرالي. خلال هذه الفترة ظهرت أفكاره المتميزة والمثيرة للجدل حول السياسة الواجب اتباعها لإدارة الاقتصاد الأمريكي. ولأهمية هذا الحدث على اقتصادات العالم تترقب الأسواق العالمية بحذر وترقب ماذا سيكون عليه الحال حال تسلم بيرنانك لمنصبه في الأول من شباط (فبراير) 2006. ولكن لماذا هذا الترقب والانتظار؟ لمعرفة السبب يجدر بنا النظر في الأفكار التي يتبناها بيرنانك. من أهم الأفكار التي يقترحها بيرنانك وينادي بها هي استخدام آلية محددة مسبقاً (نموذج رياضي) تعمل على تحديد معدل الفائدة بشكل آلي في البنوك المركزية وتساعد في اتخاذ القرارات المتعلقة بها. للوصول إلى هذا النموذج الرياضي عمل بيرنانك مع أحد زملائه على بناء نموذج تقوم فكرته الأساسية على استخدام المعلومات عن الوضع الاقتصادي الحالي كمدخل للنموذج, وفي ضوء هذه المعلومات يقترح النموذج طريقة لتعديل سعر الفائدة في الأجل القصير بشكل آلي للمحافظة على معدل منخفض للتضخم والبطالة. لكن هل سيكون هذا النموذج بديلاً للإنسان في اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة الاقتصادية؟ يرد بيرنانك على ذلك بقوله إن هذا النموذج أو هذه الآلة كما يسميها البعض لن تكون بديلاً للإنسان ولكن لها مزايا عدة كمزايا الطيار الآلي في الطائرة. الأمر الثاني الذي يثير الجدل حول بيرنانك وأفكاره المتعلقة بسياسة الاحتياطي الفيدرالي هو اقتراحه استهداف معدل تضخم في الأجل الطويل (2% مثلاً) ولكن بدون تحديد إطار زمني أو أي متطلبات لهذا الهدف. حسب بيرنانك فإن ذلك سوف يساعد "الاحتياطي" في تحسين عملية الاتصال وتحسين سياسة اتخاذ القرارات بدون الخوف من التضحية بمدى مرونة معين في عملية اتخاذ القرارات. المنطق الذي يستند إليه بيرنانك هو أن استهداف معدل للتضخم يمكن التعبير عنه كمعدل مستهدف للنمو والتوظيف. ولكن يتم استهداف معدل محدد للتضخم لأنه الشيء الوحيد الذي يمكن لـ "الاحتياطي" التحكم فيه.
منتقدي بيرنانك ومنهم جرينسبان نفسه وبعض من مسؤولي "الاحتياطي الفيدرالي" يخشون من أن استخدام نموذج محدد مسبقاً لتحديد سعر الفائدة سوف يؤدي إلى الحد من قدرة البنوك المركزية على تخفيض سعر الفائدة في أوقات الأزمات الاقتصادية. إضافة إلى ذلك يتساءل هؤلاء عن مدى حاجة "الاحتياطي الفيدرالي" إلى مثل هذه السياسة ما دام يعمل جيداً وبشكل فاعل دونها. واقعياً سيكون من الصعب على بيرنانك إقناع زملائه من مسؤولي الاحتياطي والكونجرس بأن مزايا هذه السياسة سوف تفوق عيوبها. في مقابل ذلك يقترح بيرنانك التحول التدريجي وبخطوات صغيرة نحو استهداف معدل تضخم معين, كما أنه يقترح عدة تكتيكات للفوز بدعم "الكونجرس" لهذا التغيير. إن من أهم ما يتميز به بيرنانك هو معرفته العميقة بخبايا السياسة الأمريكية الداخلية, فهو يعرف كيف يدخل من الأبواب الخلفية لحشد الدعم لسياسة إدارة "الاحتياطي الفيدرالي".
يواجه "الاحتياطي الفيدرالي" التزامين أمام "الكونجرس" باستخدام السياسة النقدية - سعر الفائدة أساساً - لإنجاز هدفين رئيسيين: المحافظة على معدل تضخم منخفض والمحافظة على معدل جيد للتوظيف. عندما يخفض "الاحتياطي" سعر الفائدة تنخفض تكلفة الاقتراض, مما يسهم في خلق فرص عمل أكثر. هذه السياسة جيدة خلال فترة الركود الاقتصادي ولكن ذلك قد يزيد التضخم عندما يكون الاقتصاد في حالة نمو بمعدل جيد. على العكس من ذلك فمعدلات الفائدة المرتفعة قد تكبح جماح النمو الاقتصادي, مما سيخفض التضخم ولكن يزيد البطالة.
لقد تميز جرينسبان خلال فترة إدارته "الاحتياطي الفيدرالي" بتركيزه على الإنتاجية والنمو, فهو يعد أول محافظ يرى أن التكنولوجيا الحديثة يمكن أن تزيد النمو بشكل قوي وفعال مع المحافظة على معدل منخفض للتضخم. وهذا يعني وظائف أكثر وفرص عمل أكثر، ارتفاع في الثروة ، وزيادة في المساكن.
كما ذكرنا سابقاً في كل مرة ينتعش الاقتصاد يقوم "الاحتياطي" برفع معدلات الفائدة لتؤدي في النهاية إلى فترة من الركود الاقتصادي. مع بداية التسعينيات فاز جرينسبان بالنقاش حول جدوى المحافظة على معدلات فائدة منخفضة عندما ينمو الاقتصاد بشكل سريع, ذلك لإيمانه بأن التكنولوجيا سوف تعوض ذلك بالزيادة في الإنتاجية وسد فجوة فائض الطلب في السوق ومن ثم المحافظة على معدلات تضخم معتدلة.
المشكلة التي يتخوف منها الكثيرون هو مدى قدرة "الاحتياطي" على المحافظة على أدائه الجيد خلال السنوات الأخيرة عندما يتم تبني الأفكار الجديدة لمحافظه الجديد. في المقابل لا يتوقع عدد من الاقتصاديين أن بيرنانك سيواجه باختبار صعب كالذي واجهه جرينسبان بعد عشرة أسابيع فقط من اعتلائه سدة "الاحتياطي الفيدرالي" فيما يسمى أزمة الإثنين الأسود 1987. لكن يظل أمام بيرنانك عدد من القضايا المهمة التي يجب عليه مواجهتها في عام 2006, منها:
* توقع انخفاض الطلب على المساكن بسبب ارتفاع سعر الفائدة.
* الخوف من أزمة في صناديق التحوط التي زادت أحجامها بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة مع عدم وجود قانون منظم لها.
* الخوف من بيع الصين السندات الأمريكية عندما يتبنى الكونجرس - وهو متوقع - برنامج عقوبات على واردات الصين بسبب زيادة العجز في الميزان التجاري معها.
* الخوف من ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي, مما قد يؤثر في الإنفاق الاستهلاكي للمستهلكين ومن ثم سوف يؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي.
* الخوف من تعثر كل من شركتي جنرال موتورز وفورد أكبر مصدري سندات الشركات والظاهر من تخفيض تصنيفهما الائتماني.