الغاز.. أداة قوية لعودة موسكو إلى سوق الطاقة
يعتبر ملف تصدير الغاز الروسي للأسواق الأوروبية من أهم القضايا الأساسية بين روسيا والاتحاد الأوروبي التي شهدت صراعات وتقلبات في المواقف بين الجانبين. وكان تقليص الفارق بين أسعار الغاز الروسي في السوق الداخلية والأسواق الخارجية، أي زيادة الأسعار في السوق المحلية، من الشروط الأساسية التي وضعها الغرب لقبول عضوية روسيا في منظمة التجارة العالمية.
وخلال السنوات الأربع الماضية ظهر خلاف آخر حول ملف الغاز، عبّر عنه إعلان موسكو عن انتقاداتها لاستراتيجية الاتحاد الأوروبي في استيراد الغاز، جددت فيه روسيا مطلبها (الذي تقدمت به منذ سنوات عديدة) باتباع منهج ليبرالي في سوق الغاز الأوروبية، والانتقال إلى العقود قصيرة الأمد، باعتبار أن ذلك سيؤدي إلى بيع الغاز الروسي بكميات كبيرة من قبل الشركات الموزعة وشركات نقل الترانزيت.
ولا يقتصر الأمر على تحسين تسويق الغاز، وإنما يعود أيضا إلى أن بعض البلدان استغلت أسعار الغاز المنخفضة المثبتة بعقود دولية طويلة الأمد، والتي حصلت عليها من روسيا لأسباب سياسية (كان يتم توريد نحو 75 في المائة من مجمل حجم الغاز وفق هذه العقود)، لتقوم بإعادة بيع الغاز الروسي لبلدان ثالثة محققة أرباحاً كبيرة، ما أدى إلى أن الغاز الروسي أصبح ينافس نفسه.
واعتبرت وزارة الطاقة الروسية أن بيع الغاز بسعر 110 إلى 130 دولاراً للألف متر مكعب يضر بمصالح روسيا، باعتبار أن المستهلك النهائي في أوروبا يشترى الألف متر مكعب بنحو 300 دولار، ما يعنى أن روسيا تدعم اقتصاد الاتحاد الأوروبي وتجارة المضاربين بالغاز الروسي. وتفيد معطيات وزارة الطاقة أن خسائر روسيا السنوية الناجمة عن هذه السياسة كانت تزيد على 700 مليون دولار، ومع ازدياد استهلاك الغاز في أوروبا ستزداد هذه الخسائر أضعافاً مضاعفة نظرا إلى أن استهلاك أوروبا للغاز سيتضاعف حتى عام 2010. وتركزت جهود موسكو على توقيع عقود توريد جديدة مع الدول الأوروبية يتم فيها تعديل أسعار الغاز لتصل إلى 240 دولارا لكل ألف متر مكعب، على ألا تزيد فترة صلاحية العقد على خمس سنوات، في الوقت نفسه الذي بدأ الكرملين يتعامل فيه مع الغاز ليس فقط كسلعة استراتيجية، إنما باعتباره أداة سياسية تمكن روسيا من استعادة نفوذها على الساحة الدولية.
صادرات الغاز الروسي
تشكل الصادرات الروسية من الغاز أكثر من 45 في المائة من التصدير العالمي. وتفيد إحصائيات وزارة الطاقة أن الغاز الروسي يمكن أن يسد احتياجات البلاد ويغطى صادراتها وفق الحجم الحالي الذي يتم استخراجه لمدة 100 عام. إلا أن سياسة استيراد الغاز الأوروبية تثير الشكوك حول إمكانية تنفيذ المشاريع الاستثمارية الضخمة لحقول الشمال وحقول سيبيريا، ذلك بسبب الإخلال بخطط الاستثمارات طويلة الأمد في قطاع الغاز والبنية التحتية لقطاع نقل الغاز.
وتعتبر موسكو أن الاتحاد الأوروبي يلعب في سوق الغاز دور احتكار مستوردي الغاز (احتكار المشتري)، ما يجبر البلدان الموردة على إنتاج الغاز وتسويقه بقوانين هذا الاحتكار ولتحقيق مصالحه الخاصة دون مراعاة مصالح المنتجين، وأن استمرار الوضع في هذه الاتجاهات لا بد أن يؤدى في الفترة المقبلة إلى ظهور احتكار جديد لمصدري الغاز على غرار منظمة أوبك (احتكار المنتج)، إذ تلاقي فكرة الدفاع الجماعي عن مصالح منتجي الغاز تأييدا ليس فقط في روسيا ودول الفراغ السوفياتي المستخرجة للغاز فقط، وإنما أيضا من الجزائر، ليبيا، قطر، العراق، إيران، البحرين، وبروناي، ويشكل إجمالي إنتاج هذه البلدان أكثر من 16 في المائة من إنتاج الغاز العالمي، ما سيمنح الاحتكار الجديد لمنتجي الغاز القدرة للسيطرة على ثلثي سوق الغاز والتأثير بفعالية في الأسعار، وسيؤدي إلى ظهور قوة جديدة في مواجهة القوة الأوروبية في أسواق الغاز العالمية، بحيث يصعب منع التصادم بينهما.
ويرى الباحثون الاقتصاديون أن الاتحاد الأوروبي لا تتوافر لديه أدوات للضغط على منتجي الغاز، إذ يصعب عليه الامتناع عن استيراد الغاز من روسيا ودول الفراغ السوفياتي بسبب عدم وجود بدائل تغطي احتياجات الدول الأوروبية.
وحتى يتمكن الكرملين من استخدام الغاز كأداة سياسية تمكن روسيا من استعادة مكانتها على الساحة الدولية، لا بد أن يتم تحرير قطاع الطاقة من الارتباطات التي قد تعوق استخدامه لإقناع المجتمع الغربي بأن روسيا لاعب أساسي على مسرح السياسة الدولية، ومن أبرز هذه العوائق:
حقول الغاز والنفط
يعتبر الخبراء أن حرص أوروبا على ضمان أمن الطاقة يشكل المدخل الذي سيمكن روسيا من تحقيق مصالحها الدولية، باعتبار أن الضمانة لتحقيق استقرار توريد الطاقة إلى أوروبا على مدار السنوات المقبلة ترتبط بعلاقات جيدة مع روسيا، وهو ما تدركه أغلبية الدول الأوروبية وما أكدته تصريحات الأوساط الرسمية في بريطانيا. وقد بدأت الأسرة الأوروبية تربط أمن الطاقة في أوروبا بالتعاون مع موسكو بعد عدة أيام فقط على توقيع الاتفاقية الروسية الألمانية حول مد أنبوب للغاز في شمال أوروبا.
وردا على المخاوف الأوروبية، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن أهم بنود استراتيجية الطاقة الروسية يتمحور حول توفير الغاز للدول الأوروبية، ووعد بوتين بزيادة صادرات بلاده من الغاز إلى أوروبا ليصل حجمها عام 2020 إلى أكثر من 70 في المائة من احتياجات أوروبا.
وتعتبر الحكومة أن السبيل الوحيد لتطوير الاستثمار في قطاع الطاقة يتطلب تأسيس شركات قابضة لا تقل ملكية الحكومة عن 51 في المائة من الأسهم في هذه الشركات.
ورفض وزير الطاقة الروسي فيكتور خريستينكو وجهات النظر التي تعتبر الشركات الخاصة تفوق فعالية الشركات الحكومية، موضحا أن الضرورة تقتضي تجميع شركات النفط والغاز في شركات قابضة كبيرة تستطيع تذليل مصاعب العمل في مناطق نائية ذات ظروف طبيعية قاسية، باعتبار أن هذه الإمكانية لا تتوافر لدى الشركات الكبيرة.
وتكشف الخطوات التي تتخذها الحكومة لدعم شركتي غازبروم وروس نفط، اللتين تسيطران على 90 في المائة من إنتاج الغاز في روسيا وأكثر من 50 في المائة من إنتاج النفط، أن الكرملين ينفذ التوجهات التي أشار إليها وزير الطاقة، ويقوم بتأميم قطاع الطاقة الروسي وفق قوانين السوق الرأسمالية، عبر تدمير المنافسين لحساب هاتين الشركتين، بدءا من تفتيت شركة يوكوس وبيع أكبر الشركات التابعة لها "يوجانسك نفط" لشركة روس نفط، مرورا بالتضييق على نشاط الشركة الروسية ـ البريطانية BP.
طرق نقل الطاقة
لعل اتفاقية مد أنبوب الشمال الأوروبي التي وقعت بحضور بوتين وشرويدر منذ عدة شهور كانت خطوة أساسية في تنفيذ خطط الكرملين، حيث تقضي الاتفاقية الموقعة بين "غازبروم" الروسية وشركتي Ruhrgas AG وBASF AG الألمانيتين بمد أنبوب إلى بحر البلطيق عبر مقاطعتي فولوجدا ولينينجراد (روسيا) من خط الأنابيب القائم المتصل بحقل الغاز "يوجنو روسكي" في شبه جزيرة يامال، الذي يعتبر القاعدة الأساسية لصادرات الغاز، حيث تقدر الاحتياطيات المؤكدة لهذا الحقل بأكثر من 700 مليار متر مكعب من الغاز. ويهدف المشروع الذي تقدر قيمته بأكثر من أربعة مليارات يورو إلى نقل الغاز الروسي من خليج بورتوفايا عبر قاع بحر البلطيق إلى مدينة جرايفسفالد في ألمانيا.
وسيتم تشييد خط أنابيب بطول 1189 كلم من خليج بورتوفايا قرب مدينة فيبورج الروسية إلى ميناء جرايفسفالد الألماني في قاع بحر البلطيق. ومن المتوقع أن ينتهي تشييد أول أنبوب في المشروع عام 2010، ما سيوفر الإمكانية لنقل 30 مليار متر مكعب من الغاز.
وتشير تقديرات الخبراء إلى أن روسيا ستحصل خلال العام الأول لاستثمار أنبوب الغاز المذكور على أرباح تقدر بنحو أربعة مليارات دولار، إضافة إلى خفض نفقات النقل عبر الأراضي الأوكرانية، التي تبلغ 20 في المائة من ثمن الغاز (نحو 13 في المائة مقابل دفع تكاليف النقل ونحو 7 في المائة لقاء الحفاظ على الضغط في الأنابيب)، إضافة إلى تكاليف النقل واستخدام شبكة الأنابيب في بيلاروسيا وبولندا.
أما المحور الثاني في تطويق القارة الأوروبية فهو يتمثل في التعاون الروسي ـ التركي في مجال الغاز، حيث تم الاتفاق بين "غازبروم" الروسية و"بوتاش" التركية للنفط والغاز على تصدير الغاز الروسي إلى تركيا. ويخطط الجانبان لتوظيف جزء من أرباح صادرات الغاز الروسي إلى تركيا في مشاريع تشييد البنية التحتية لنقل الغاز الروسي عبر الأراضي التركية إلى جنوب إيطاليا وإلى دول أخرى وخاصة في الاتجاه الجنوبي. ويعود التعاون الروسي التركي في مجال الغاز إلى عام 1984، حيث صدّرت روسيا إلى تركيا منذ عام 1987 وإلى 2003 نحو 105.8 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عبر أنبوب نقل الغاز في منطقة البلقان، وأنبوب "السيل الأزرق" البحري.
وقد قام الجانبان الروسي والتركي منذ عدة شهور بافتتاح خط أنابيب نقل الغاز "السيل الأزرق"، واعتبر بوتين خط الأنابيب المذكور أكبر مشروع لتصدير الغاز الطبيعي الروسي تم تنفيذه بموجب اتفاقيات حكومية شاركت فيها شركة غاز بروم الروسية وشركة بوتاش التركية، إضافة إلى شركة ANE الإيطالية التي نفذت مرحلة إنشاء خط أنابيب في قاع البحر الأسود من محطة ضخ الغاز "بيريجوفايا" (إقليم كراسنودار الروسي) إلى سامسون. وتبلغ قدرة الضخ لخط الأنابيب نحو 16 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، وتم ضخ 3.7 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عبر خط الأنابيب هذا خلال عشرة أشهر من العام الحالي.
السيطرة على الغاز الآسيوي
تحرص موسكو على بسط نفوذها على كافة منابع الغاز في مناطق الفراغ السوفياتي، إذ تعتبر كل من تركمانستان وأوزبكستان من أهم منتجي الغاز في دول الفراغ السوفياتي. وكانت تركمانستان قد وصلت إلى اتفاق مع موسكو على توريد الغاز التركماني إلى شركة غازبروم الروسية بسعر 65 دولارا لكل ألف متر مكعب، حيث سيتم خلال عام 2006 توريد أكثر من 30 مليار متر مكعب، ستحصل الشركة الروسية على نصف هذه الكمية خلال الربع الأول من العام الحالي.
وكانت روسيا وتركمانستان قد وقعتا اتفاقية للتعاون في مجال الغاز مدتها 25 عاما في نيسان (أبريل) 2003، ووفقا للاتفاقية المذكورة استوردت روسيا خلال عام 2004 نحو خمسة مليارات متر مكعب من الغاز من شركة نفط وغاز تركمانستان. بينما بلغ حجم الغاز الذي تم توريده إلى روسيا من تركمانستان خلال عام 2005 نحو ستة مليارات متر مكعب، وبدءا من عام 2009 ستصدّر تركمانستان 70 إلى 80 مليار متر مكعب من الغاز إلى روسيا حتى عام 2028. ويجري تصدير الغاز التركماني إلى روسيا عبر شبكة أنابيب "آسيا الوسطى ـ وسط روسيا" لنقل الغاز، والتي تمر أيضا عبر أراضي أوزبكستان وكازاخستان.
وبذلك يمكن القول إن شبكة أنابيب نقل الغاز الضخمة التي تعمل روسيا على تشييدها لم تحررها من محاولات المستهلكين للتأثير في مصالحها وإنما مكنتها من أن تلعب دورا مزدوجا، فهي من جهة تلعب دور احتكار المستهلك في مناطق الفراغ السوفياتي السابق باعتبارها تسيطر على شبكة نقل الغاز، ومن جهة أخرى تلعب دور احتكار المنتج مع أوروبا نظرا لتوافر الإمكانيات لديها لتوصيل منتجها إلى المستهلكين.
حرب الغاز الأوكرانية
فى هذا السياق تأتى معركة الغاز التي تفجرت أخيرا بين روسيا وأوكرانيا عقب سلسلة من التصريحات التي أكدت فيها أوكرانيا عزمها على الانضمام إلى حلف الناتو، وإعلانها الانسحاب من المجال الاقتصادي الموحد. وبات واضحا أن الغرب قد جعل من أوكرانيا رأس حربة في التضييق على روسيا وفرض حصار عليها وتقليص نفوذها، ليس فقط على الساحة الدولية، وإنما أيضا في مناطق وجودها التقليدي.
وأعلن مجلس إدارة شركة غاز بروم في البداية أن الشركة ستعقد الاتفاقات الجديدة وفق الأسعار الأوروبية التي ستكون أساسا لتحديد أسعار الغاز لأوكرانيا وبقية دول الفراغ السوفياتي، مع حسم النفقات على نقله، أكدت إدارة الشركة أن نقل الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية يتم اليوم وفق أسعار السوق الأوروبية، وأعربت عن استعدادها لدفع مبلغ أكبر مقابل النقل لضمان توريد الغاز للمستهلكين الأوروبيين، حيث يبلغ سعر النقل عبر أوكرانيا الآن دولارا واحدا لكل 100 كيلو متر مقابل ألف متر مكعب من الغاز.
وكان سعر الغاز لأوكرانيا خلال السنوات الخمس الأخيرة ثابتا في حدود 50 دولارا مقابل ألف متر مكعب، ومع تصاعد حدة الأزمة السياسية رفعت "غاز بروم" أسعار الغاز المقترحة للعقود الجديدة مع أوكرانيا من 150 دولارا لكل ألف متر مكعب إلى 230 دولارا لكل ألف متر مكعب.
وعقب لقاء الرئيس الأوكراني يوشينكو مع مدير المخابرات الأمريكية، صعدت كييف من هجمتها على موسكو، وطالبت بإعادة النظر في إيجار القاعدة العسكرية الروسية في القرم، وبات واضحا أن المعركة لا تستهدف حماية حقوق المنتجين الروس أو إنقاذ المستهلكين الأوكرانيين، وإنما هي محاولة لإضعاف النفوذ الروسي في أوكرانيا من جهة.
أما من جانب روسيا فقد استهدفت الحرب الدائرة إقناع الغرب بأن موسكو لاعب مؤثر في الساحة الدولية، وقوة أساسية في آسيا ومناطق الفراغ السوفياتي لا يمكن تجاهل مصالحها، وإلا سيؤدى هذا إلى تهديد أمن الطاقة في أوروبا. ونجحت موسكو في استخدام أوروبا لمواجهة واشنطن التي ساندت يوشينكو في مواجهته للمطالب الروسية، ثم اضطرت للتراجع بعد أن دخلت أوروبا حرب الغاز لحماية مصالحها. من جهة أخرى، أكدت روسيا سيطرتها على الغاز الآسيوي، وتحولت بذلك إلى قوة أساسية في قطاع الطاقة العالمي.
وعلى مستوى الوضع الداخلي في أوكرانيا، كشفت الحرب بأن الصداقة مع روسيا تحمل أهمية خاصة بالنسبة للمجمعات الصناعية الأوكرانية، التي كانت تتمسك بالعلاقة مع روسيا منذ أزمة انتخابات الرئاسة في أوكرانيا، وهو الموقف الذي تأمل موسكو أن يجد أنصارا في كييف وبعض المدن الأخرى، ليحقق حلفاء موسكو انتصارا في انتخابات البرلمان المقبلة.