الدعوة البريطانية
أعادت بريطانيا النظر في الدعوة إلى قمة كان يفترض أن تستضيفها لندن الشهر المقبل، وقرر رئيس الوزراء جوردون براون الاكتفاء بلقاء لوزراء الطاقة في الدول المنتجة وتلك المستهلكة. القمة المقترحة اعتبرت متابعة للقمة التي استضافتها جدة في حزيران (يونيو) الماضي، الأمر الذي يوفر متابعة سياسية للشأن النفطي يحتاج إليه بشدة خاصة والمنبر يضم جانبي المعادلة من منتجين ومستهلكين.
إعادة النظر هذه وفرت على لندن حرج دعوة زعماء لا تطيق وجودهم على أراضيها، مثل الرئيسين الإيراني محمود أحمدي نجاد والفنزويلي هيوجو شافيز، ومع أن التبرير الرسمي أن العالم شهد في الفترة الأخيرة لقاءات عدة بسبب الأزمة المالية، وأن الرئيس الأمريكي جورج بوش، الذي كان يفترض أن يكون في طليعة المدعوين لقمة لندن، يستضيف في واشنطن هذا الشهر قمة العشرين التي ستبحث في كيفية إصلاح النظام المالي العالمي.
لكن السبب الحقيقي يتلخص في حقيقة واحدة وبسيطة، وهي التراجع الكبير في سعر برميل النفط من القمة التي بلغها قبل أكثر من ثلاثة أشهر وقاربت 150 دولارا للبرميل، وبالتالي تبدد الاهتمام الرئاسي بهذه القضية.
تعليق براون على قرار منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) الأخير بخفض إنتاجها بمعدل مليون ونصف المليون برميل يوميا، ووصفه إياه "بالمشين"، يوضح حدود الاهتمام البريطاني ورغبتها أن ترى أكبر تراجع ممكن في الأسعار، وهي في هذا تتصرف كدولة مستهلكة، أكثر منها منتجة، وهو الموقف الذي دأبت عليه منذ أن برز بحر الشمال بجانبيه البريطاني والنرويجي مصدرا مهما للطاقة. وبلغ هذا الموقف قمته إبان انهيار أسعار النفط في مطلع الثمانينيات ورفض رئيسة الوزراء وقتها مارجريت تاتشر التعاون بأي صورة من الصور مع (أوبك) وخفض الإنتاج.
وفي واقع الأمر يمكن إيجاد تبرير لهذا الموقف انطلاقا من النظرة قصيرة الأمد خاصة والإنتاج النفطي البريطاني من بحر الشمال في حال تناقص مستمر للدرجة التي أصبحت فيها الأرقام تتلى حول التوقيت الذي يمكن أن تنضب فيه هذه الحقول أو تصل إلى معدلات إنتاجية متدنية، لكن حتى كدولة مستهلكة فإن بريطانيا ينبغي أن تكون مهتمة باستقرار السوق، وأن الانهيار الحالي في الأسعار لا يعدو كونه هدنة أو استراحة تعاود بعدها ارتفاعها.
فالتجارب المعاصرة، ناهيك عن السجل التاريخي، توضح ببساطة أن أي أزمة ارتفاع أو تدهور سعري تبذر بذور الأزمة المقبلة في الاتجاه المعاكس، فالارتفاع في الأسعار يسهم تدريجيا في الدفع باتجاه تغيير عادات المستهلكين ومن ثم تقليص الطلب، الأمر الذي ينتج عنه تخمة في السوق بسبب زيادة المعروض على ما يحتاج إليه المستهلكون. وبالقدر نفسه، فإن التراجع الحاد في الأسعار يدفع إلى زيادة الاستهلاك ومن ثم الطلب الذي يتجاوز ما هو معروض ومن ثم تتجه الأسعار إلى الارتفاع. ويجدر بالذكر هنا أن أحد أسباب دعوة بريطانيا للقمة أن براون، الذي كان مشاركا في مؤتمر جدة، كان على قناعة بأن الأسعار ستظل مرتفعة حتى على المستوى البعيد.
والغريب أنه حتى وقبل أن يأخذ التراجع السعري الحالي مداه، خرجت الوكالة الدولية للطاقة بتحذيرات من أن معظم حقول النفط الرئيسية في العالم تشهد تراجعا في قدراتها الإنتاجية قدرتها بأكثر من 9 في المائة سنويا، وأنه مع الحجم الكبير المتوقع للاستثمارات سواء في حقول جديدة أو تجديد وصيانة لتلك القائمة، فإن نسبة التراجع يتوقع لها أن تتقلص إلى نحو 6 في المائة فقط. وبعبارة أخرى، فإن أحد ملامح الأزمة المقبلة بدأ في التشكيل من الآن.
النقطة الثانية الجديرة بالاهتمام تتركز في وضع الطاقة الإنتاجية الفائضة. فأحد أسباب الارتفاع السعري خلال السنوات الست الماضية شعور العالم باضمحلال الطاقة الإنتاجية الفائضة إلى أقل من 5 في المائة من حجم الطلب العالمي اليومي، وهذه نسبة خطرة إذ تعني أنه حال حدوث أي انقطاع في الإمدادات يصبح من الصعب تعويضه، الأمر الذي يخلق أزمة تنعكس سعريا.
لكن توفير الطاقة الإنتاجية يحتاج إلى استثمارات طويلة الأمد وتحمل عدم وجود عائد على هذا الاستثمار في المدى القصير، وهو ما لا تجد فيه الشركات النفطية الأجنبية حافزا، خاصة وهي مطالبة بسبب حملة أسهمها بتحقيق نتائج مالية جيدة كل ربع سنة تنشر فيه نتائجها المالية.
وهذا ما كان يتطلب قرارا سياسيا يفترض في لقاءات القمة في لندن وغيرها أن يبحث فيه، فحتى الدول ذات الاحتياطيات الراغبة في ضخ الاستثمارات اللازمة لتطوير الصناعة وتوفير الطاقة الإنتاجية تحتاج إلى ضمان حد أدنى من الاستهلاك يجعل لتلك الاستثمارات جدوى اقتصادية.
لكن يبدو، وحتى إشعار آخر، أن الحسابات السياسية قصيرة الأمد لا تزال سيدة الموقف.