الدية وشركات التأمين .. من الذي يستفيد من الآخر؟
سألت مرة أحد مديري شركات التأمين: ماذا لو صدر قرار بإعادة احتساب الدية بأكثر مما هو معمول به في الوقت الحالي، أي أن يتم زيادة المبلغ إلى الضعف أو إلى أضعاف مما هو محتسب حالياً للدية، مليون ريال مثلاً، ماذا ستكون ردة الفعل لديك على اعتبار أن شركتك معنية مباشرة بهذه المسألة؟ كان جواب هذا الزميل هو أنه: (طالما أن هناك حكماً قضائياً يلزم عميلي بذلك فأنا سأدفع بدلاً منه دون تردد)، واستطرد قائلاً: "أنا أدرك تماماً أن المعني في هذا الأمر في المقام الأول هو ليس العميل ولكنه الشخص المضرور الذي ينبغي أن يحصل على تعويض عادل عن الفعل الضار الذي ارتكبه العميل واستلزم مسؤوليته وإلزامه بدفع الدية".
وربما قد يستغرب القارئ الكريم من إجابة هذا الزميل ولكن هناك بعض من الفنيات عن التأمين التي لو عرفها القارئ لزال استغرابه من هذا الأمر، ولعل القارئ الكريم يدرك كذلك أن الأنظمة التي صدرت أخيراً في المملكة بشأن التأمين ومنها على الأخص القرارات المتعلقة بالتأمين الإلزامي على المركبات ضد المسؤولية قد هيأت مجالات كبيرة لعمل شركات التأمين وحققت لها فرصاً ربحية كبيرة، وفي المقابل فإن التزامها بدفع الديات المترتبة على الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم ضد عملائها لا تتناسب مع العائد المجزي لأقساط التأمين المتحصلة من هؤلاء العملاء. كما ينبغي أن نعترف بأن احتساب الدية في السابق قد روعي فيه في المقام الأول قدرة المحكوم عليه على دفع المبلغ والذي لم يتجاوز إلى حد الآن 100 ألف ريال، وبالرغم كذلك من أننا نعترف جميعاً بأن هذا المبلغ ـ وكما كتبت في مقالات سابقة ـ لا يساوي جزءاً بسيطاً جداً من القيمة الحقيقية للإبل التي يتم احتساب الدية على أساس أقيامها.
إن الأمر قد تغير الآن فمن يدفع الدية في الغالب هو شركات التأمين، ومن هذا المنطلق يجب أن نراعي أمرين مهمين وهما قدرة شركات التأمين على دفع مبلغ أكبر يمثل قيمة عادلة للدية، والأمر الآخر هو حق الشخص المضرور في الحصول على تعويض عادل له أو لأسرته بحيث يوفر له هذا التعويض معيشة كريمة تغنيه عن سؤال الناس أو الجمعيات الخيرية.
الأمر الآخر الذي ينبغي أن يشجع على إعادة تقييم الدية هو أن تتبنى الجهات المختصة في الدولة نظاما مُحكما يضمن بأن يكون لكل قائد مركبة في المملكة تأمين ضد المسؤولية، وأن تتشدد هذه الجهات بشكل كبير وفاعل في هذه المسألة، ثم تقوم الدولة بعد ذلك بإلزام شركات التأمين بالمساهمة برأسمال صندوق مستقل تكون مهمته دفع التعويضات بدلاً من قائدي المركبات الذين ليس لديهم تأمين أو بشكل أدق ليست لديهم تغطية تأمينية، على أن يتم إعطاء هذا الصندوق في المقابل الحق في رفع دعاوى قضائية مباشرة على قائدي المركبات المسؤولين عن دفع تلك الديات وذلك لتحصيل المبلغ الذي قام هذا الصندوق بدفعه بدلاً عنهم. فالهدف من إنشاء هذا الصندوق هو تعويض المتضررين فوراً ودون تأخير عن طريق هذا الصندوق والقضاء على التردد الذي قد يثيره البعض بصعوبة رفع مبلغ الدية بحجة أنه ليس لدى كل قائد مركبة أو مالكها تأمين ضد المسؤولية، وبذلك يكون دافعو الديات لدينا وفي جميع الأحوال هم شركات التأمين أو هذا الصندوق، ولكن هذا الأخير يبقى دائنا بالمبلغ كله ضد هؤلاء الذين لم يبرموا وثائق تأمين ضد المسؤولية أو أنهم ارتكبوا مخالفات حرمتهم التغطية التأمينية ويبقى بيت المال في الدولة ضامنا للديات التي لا يُعرف من المسؤول عنها.
أكاديمي وباحث في التأمين
[email protected]