ساعة الحقيقة أمريكياً ونفطياً
كأن الصناعة النفطية لم يكفها ما تعانيه من متاعب، فإذا بالأزمة المالية الأمريكية تنفجر مهددة بالانتشار إلى بقية أنحاء العالم، الأمر الذي يفرض عليها ضغوطا وتبعات لابد لها من مواجهتها.
لكن من ناحية أخرى، أسهمت الأزمة المالية في كشف إحدى إشكاليات الصناعة النفطية المتمثلة في الاستهلاك الأمريكي المفرط للطاقة، إذ إن واحدا من كل أربعة براميل يستهلكها العالم من نصيب الولايات المتحدة.
فالأزمة المالية الأخيرة التي ضربت قلعة النظام الرأسمالي حارسة فلسفة اقتصاد السوق للدرجة التي دفعت واشنطن إلى تبني سياسات "اشتراكية" تستند إلى تدخل الدولة، أوضحت أن الاستهلاك الأمريكي إنما يتم تمويله من الخارج، أي باختصار الأمريكان يعيشون فوق ما تسمح به إمكاناتهم، وأن التمويل الرئيس لهذا التصرف يأتي من الاقتصادات الآسيوية، التي تعيش بأقل ما هو متاح لها من إمكانات.
وفي واقع الأمر فإن السلع الآسيوية الرخيصة، خاصة من الصين التي أغرقت السوق الأمريكية، أسهمت إلى حد كبير في تعمية الصورة أمام مجلس الاحتياط الفيدرالي، المشغول بمقياس الاستهلاك ارتفاعا وانخفاضا، وجعله يخلص إلى أنه يستطيع المضي قدما في تحقيق نمو كبير وفي الوقت ذاته الإبقاء على نسبة التضخم منخفضة بسبب الصورة الزائفة الناجمة عن رخص السلع الصينية.
الاقتصادات الآسيوية، خاصة بنوكها المركزية، وجدت أن من مصلحتها دعم الاقتصاد الأمريكي بتوفير السيولة اللازمة له ليستمر في الاستدانة منها ليتمكن من شراء منتجاتها، فلهذه البنوك المركزية احتياطيات هائلة يمكنها تمويل خطة الإنقاذ للنظام المصرفي الأمريكي ست مرات.
على أن هذا الأسلوب تعرض إلى مراجعة كبيرة بسبب الانهيار الذي شهدته الأسواق الشهر الماضي، ومن ثم أصبح السؤال: إلى أي مدى يمكن للاقتصاد الأمريكي تجاوز حالة الركود التي بدأ يتجه إليها ويمكن أن يسحب معه بقية الاقتصادات الأوروبية، الأمر الذي يؤذن بمتاعب عالمية، رغم أن الاقتصادات الآسيوية تبدو وإلى حد ما في وضع أفضل خاصة عند مقارنة وضعها برصيفتها الأوروبية؟
وهذا ما يعيدنا إلى الساحة النفطية، فالأزمة التي أكدت الاستهلاك الأمريكي المفرط، أبرزت كذلك حالة ضعف الطلب على النفط التي برزت بصورة واضحة خلال هذا العام، وعبرت عنها التقارير المختلفة حتى وصلت إلى مرحلة تراجع يومي، كما أوضح المركز العالمي لدراسات الطاقة اللندني في تقريره الأخير وظهر بصورة جلية في تراجع الطلب في منظومة دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي التي تضم الدول الصناعية الرئيسة، التي تراجع الطلب فيها بنحو مليون برميل يوميا في خلال فترة عام.
ومن المؤشرات المقلقة كذلك أن الطلب الصيني على النفط مرشح للتراجع بنحو 240 ألف برميل يوميا حتى نهاية هذا العام، وذلك حتى يمكن السحب من المخزون الذي تم بناؤه استعدادا للأولمبياد.
من ناحية أخرى، فإن السوق تشهد تقلبات سعرية حادة رافقت المفاوضات العسيرة لإجازة خطة إنقاذ النظام المصرفي جعلت سعر البرميل يتأرجح في حدود 44 في المائة، وهو ما يعكس بعض الشكوك حول الخطة وإمكانية إجازتها، بل وإمكانية نجاحها بعد إجازتها، الأمر الذي أثر في الدولار وهو معرض إلى ضغوط كبيرة بسبب تزايد العجز والدين الخارجي، حيث أصبحت الولايات المتحدة مدينة للصين وحدها بنحو تريليون دولار وفق المرشح الديمقراطي باراك أوباما.
وهذه التقلبات مضرة بالنسبة للمنتجين كما هي للمستهلكين، وهو ما يعد عاملا إضافيا لابد من أخذه في الحسبان والعمل على تحقيق استقرار ما. على أن الأزمة المالية وما سيتبعها من ضعف اقتصادي سيضع منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) تحت ضغوط للاستمرار في خفض سعر البرميل، وذلك للمعاونة في تحقيق شيء من الانتعاش، فالتراجع الذي حدث حتى الآن يوفر على الولايات المتحدة مثلا مبلغ 1.3 مليار دولار يوميا، وهو ما ينعكس على المستهلكين بصورة مباشرة ويسهم في تحسين وضع الإنفاق.
وهذا الوضع يعيد إلى الواجهة قضية السعر الذي ترغب فيه المنظمة، وإلى أي مدى تسمح للسعر بالتراجع إسهاما في تنشيط الوضع الاقتصادي العالمي وتشجيعا لنمو الطلب، علما أن واقع العرض والطلب مع تحسن وضع الطاقة الإنتاجية الفائضة ومن ثم زيادة الإمدادات وتحديدا من خارج (أوبك) والتعافي السريع للمرافق النفطية في خليج المكسيك بعد إعصار آيك ومن قبله جوستاف ستجعل الضغط في اتجاه تنازلي بالنسبة لسعر البرميل.
معدل 100 دولار للبرميل الذي يتراوح حوله السعر في الوقت الحالي يمثل حاجزا نفسيا أكثر منه مطلبا اقتصاديا، فكما هو الحال طوال تاريخ (أوبك)، فإن الرغبات تتباين بحسب كل دولة ومصالحها، لكن الخط العام فيما يبدو أن الدول الأعضاء في (أوبك) قد تعودت خلال السنوات الماضية على العائدات المالية الكبيرة، وهو ما تحتاج إلى مواجهته.