التأمين وأكل أموال الناس بالباطل
كنت أتحدث مع قريب لي عن التأمين فاتجه حديثنا صوب شرعية التأمين فقال لي: "إن علة التحريم الأساسية في التأمين هي أن التأمين أكل لأموال الناس بالباطل"، فطلبت منه أن يشرح هذه المسألة أكثر، أي كيف يكون التأمين أكل لأموال الناس بالباطل؟ فقال لي: هب أنك أبرمت عقداً مع إحدى شركات التأمين فستكون أمام فرضيتين لا ثالثة لهما؛ فالفرضية الأولى هي ألا يحصل لك حادث فستأخذ شركة التأمين ما دفعته لها سلفاً من مال وهو القسط بدون وجه حق، والفرضية الثانية هو أن يحصل لك حادث ـ لا قدر الله ـ فستأخذ أنت من شركة التأمين مبلغاً وقدره وهو ما يسمى في عرفكم بالتعويض، وهو أيضاً أكل لأموال الناس بالباطل، لأنه سيكون أكثر مما دفعت لشركة التأمين وهنا مناط التحريم.
فقلت له حسنا وقبل أن أجيبك عن استنتاجك الخطير هذا دعني أستخدم فرضيتك نفسها هذه في نوع من أنواع التعاملات المعروفة التي لا غبار عليها شرعاً، ولأوضح لك مدى التقارب بين هذا النوع من التعامل وبين فكرة التأمين نفسها ومن ثم نحكم أنا وأنت سوية على هاتين المعاملتين.
هب أنك سافرت إلى إحدى المناطق المضطربة أمنياً واستأجرت حارساً أمنياً لك وأقمت في هذه المنطقة مدة معينة ولم يحصل لك مكروه، ففي هذه الحالة فإن الأجر الذي حصل عليه هذا الحارس الشخصي ودفعته له هو أيضاً أكل لأموال الناس بالباطل، بل دعني أذهب أكثر من ذلك وأقول هب لو أن هذا الحارس شركة أمنية وتعهدت لك بضمان مالك وتعويضك فيما لو لم تستطع حمايتك أو إذا سرقت أموالك فسأسألك السؤال نفسه إذاً؛ ما الذي حلل لك أكل أموال هذه الشركة بالباطل إذا قامت بتعويضك؟ مع العلم أن ما قامت به هذه الشركة هو تطبيق لنظرية الضمان في الشريعة، والضمان ـ شرعاً فكرته ـ معروفة وتطبيقاته معروفة أيضاً ويكفي أن تعلم أن الفقهاء تحدثوا عن حتى ضمان بيت مال المسلمين للمواطن في الدولة الإسلامية في حالة ما إذا لم تستطع الدولة حمايته أو حماية أمواله من السرقة أو الاعتداء عليه، ويكفينا في ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال على لسان حال بيت مال المسلمين: (أنا ضامن من لا ضامن له ووارث من لا وارث له).
إن ما حصل عليه صاحبنا هذا يا عزيزي في الفرضيتين السابقتين هو (الأمان) والأمان لا يكون بالمجان فالأمان له قيمة نقدية مثله مثل الأشياء غير المادية التي يبيعها ويشتريها الناس، فالمسألة ليست أكل لأموال الناس بالباطل، فهذا الرجل تعاقد مع شركة التأمين على توفير الأمان له في حالة حاجته إليه مثله مثل الذي تعاقد مع الشركة الأمنية أو الحارس الشخصي على توفير الأمان له ودفع مقابلاً لذلك. قريبي هذا لم يستسلم وقال لي: ولكن هذا الحارس بذل وقتاً وترك أسرته واستغنى عن راحته من أجل ملازمة وحماية هذا المسافر إلى أن يعود إلى أهله، فقلت له وكذلك شركة التأمين استأجرت مقرا ووظفت أناسا جاءت بهم من بيوتهم وتركوا أسرهم واستغنوا عن راحتهم كذلك من أجل خدمة عملاء الشركة، بل جندت هذه الشركة جزءاً من طاقاتها لدراسة المخاطر وتقديم النصح لعملائها.
التأمين مثله مثل هذا الحارس الشخصي فالشركة تتعاقد معك على توفير الأمان الذي تحتاج إليه وتضع عليك شروطاً مثل تلك التي يضعها الحارس الشخصي، فالحارس الشخصي يشترط عليك مثلاً عدم الخروج إلى مناطق معينة أو في أوقات معينة، وشركة التأمين تشترط عليك في التأمين على المركبات مثلاً عدم ارتكاب مخالفات معينة أو عدم القيادة في أماكن معينة وما إلى ذلك، بل إن شروط شركات التأمين لتغطية الخطر أشد وأنكى خصوصاً بالنسبة لتغطية المخاطر المتولدة عن نشاط معين كالمصانع مثلاً، فأين الفرق إذاً بين هاتين المعاملتين؟