نصيحة كيسنجر
عاد وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر إلى الإدلاء بدلوه فيما تشهده الساحة النفطية، وذلك عبر مقال مشترك نشره في "واشنطن بوست" يوم الخميس الماضي. والعنوان في حد ذاته كان موحيا، إذ يتحدث عن قوة المستهلكين.
وقبل استعراض المقال يستحسن الإشارة إلى صلة كيسنجر بالتطورات النفطية، فقد كان وزيرا للخارجية إبان أزمة النفط الشهيرة عام 1973 التي صحبت اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية وفرض الحظر النفطي من قبل الدول العربية بسبب الانحياز الأمريكي الواضح، لدرجة إرسال الأسلحة مباشرة إلى ميدان المعارك. ولهذا كان عليه التعامل مع قرار الحظر قائلا إنه لا يمكنه التفاوض وسيف الحظر مسلط فوق رأسه.
النقطة الثانية أنه لعب دورا رئيسا في إنشاء الوكالة الدولية للطاقة لتكون تجمعا للمستهلكين في موازاة تجمع المنتجين الذين تضمهم منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، وأكبر نجاحاتها التوصل إلى تفاهمات وسياسيات مشتركة لتقاسم الإمدادات حال تعرض دولة عضو فيها إلى حظر نفطي، الأمر الذي لم يحدث منذ ذلك الوقت لأسباب تتعلق بتطورات النظرة السياسية لدى المنتجين وللظروف التي مرت بها السوق كذلك.
أما الإسهام الثالث فيتلخص في إعادة تدوير الفوائض المالية التي حصل عليها المنتجون، أو ما عرف وقتها بالبترودولار.
في مقاله الأخير عاد كيسنجر إلى التأكيد على الأفكار ذاتها التي سعى إلى وضعها موضع التنفيذ عندما كان في السلطة. فقد أشار إلى أن انتقال نحو تريليون دولار من الثروة من المستهلكين إلى المنتجين لا بد أن تصبحه متغيرات وانعكاسات سياسية، معيبا عل المستهلكين، أو كما أطلق عليهم الضحايا، أنهم يبدون وكأنهم عاجزين عن فعل أي شيء، مشيرا إلى أن سعر البرميل لا يتحدد بقوانين السوق وحدها.
وإذا كان المنتجون يتحكمون في سعر البرميل عبر رفع الإنتاج وخفضه والتصريحات التي يطلقونها عاكسة نواياهم المستقبلية، فإنه ينصح المستهلكين أن يقوموا بتجميع جهودهم والتنسيق بين مجموعة الدول السبع الصناعية، إضافة إلى الصين والهند والبرازيل كأكبر مستهلكين، والعمل على تحويل ميزان العرض والطلب لصالحهم بدلا من انتظار الضربة المقبلة من المنتجين. كما دعا إلى العمل السياسي بهدف تحقيق قدر من الاستقرار ينعكس على الأسعار، خاصة في دولة مثل نيجيريا تعاني اضطرابات سياسية وكذلك حماية مضيق هرمز وضمان تدفق الإمدادات عبره.
ويمكن البداية برقم التريليون دولار الذي أشار إليه كيسنجر في مطلع مقالته وأنه أكبر دخل حققته (أوبك) في تاريخها. وكما أشرنا من قبل وفي هذا الزاوية، فإن الرقم يعتبر عاديا، بل ولا يعني شيئا مقابل حجم الناتج القومي الإجمالي لدولة مثل إسبانيا لا تعتبر قوة عظمى أو مؤثرة سياسيا أو اقتصاديا بصورة رئيسة بلغ إجمالي ناتجها القومي 1.4 تريليون دولار، كما أن إيطاليا القريبة منها تجاوز دخلها القومي تريليوني دولار. وأنه في الوقت الذي تتعرض فيه العائدات المالية إلى تقلبات عديدة تدفعها في الغالب إلى أسفل، فإن الدخل القومي للدول الأوروبية مرشح للثبات والنمو.
ثم إن جزءا من هذه الأموال ينفق على رفع الطاقة الإنتاجية والحفاظ عليها، وما جرى خلال الفترة الماضية كفيل بتجلية هذه النقطة. فقد زار الرئيس الأمريكي جورج بوش السعودية مرتين خلال فترة خمسة أشهر، وفيما بينهما زار الرياض أيضا نائبه ديك تشيني ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس. والكل كان يتحدث عن طلب واحد: زيادة الإنتاج ومن ثم الإمدادات إلى الأسواق. لكن هذه الزيادة تتطلب إنفاقا ضخما بمليارات الدولارات، وهو استثمار يبدو معطلا، خاصة إذا ضعف الطلب. وتدعو الدول المنتجة إلى إيجاد صيغة تضمن الحصول على عائد من هذا الاستثمارات الضخمة في شكل طلب حتى يمكن المحافظة عليها.
وتتضح الصورة بطريقة جلية أن كل الشركات النفطية تقريبا لا تستثمر في توسع طاقة إنتاجية فائضة لا تعرف إذا كان ستستمر في استغلالها، خاصة وهي شركات تجارية ومسؤولة أمام حملة أسهمها، الذين يهمهم بصورة أكبر العائد على قيمة السهم أكثر من ضمان استقرار الأسواق عبر توفير الإمدادات لمن يطلبها وحين يطلبها، وهذا عبء ظلت الدولة المنتجة خاصة السعودية تتحمله من باب مصلحتها وإحساسها العام بتوفير كل ما يمكن لصالح استقرار السوق النفطية.
الجديد أيضا يبدو في دعوته إلى توسيع نادي المستهلكين بضم المجموعة الجديدة التي برزت مثل الصين والهند والبرازيل. ومعروف أن هؤلاء أصبحوا يؤثرون في تحركات سعر البرميل أكثر مما تفعل الدول الصناعية السبع مثلا. ويعتبر هذا تطورا مقارنة بما كان سائدا في الغرب عن الدور الصيني السلبي في الدول ذات الموارد الطبيعية. لكن وبما أن هذه الدول تتعامل مع القضية النفطية من منطلق استراتيجي تتولى أمره شركاتها الوطنية العاملة في الميدان النفطي، فإن مجال التعاون يبدو محدودا.