التحدي الكبير لدول الخليج: تحويل موارد النفط والغاز إلى تنمية مستدامة

التحدي الكبير لدول الخليج: تحويل موارد النفط والغاز إلى تنمية مستدامة

دعت دراسة اقتصادية حديثة، دول مجلس التعاون الخليجي إلى تعظيم استفادتها من قطاع الطاقة لديها من خلال مد حلقات التشابك الأفقي والعمودي بينها وبين الأنشطة الاقتصادية الأخرى، وعدم الاكتفاء بتحويل الموارد النفطية إلى استثمارات في البنية التحتية كونه لم يحقق حتى الآن الإسهام القوي في الترويج للقطاع الخاص وخلق فرص كافية للعمالة الوطنية. ويأتي ذلك مع تزايد أهمية قطاع النفط والطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي في الوقت الحاضر سواء في جوانبه الإيجابية المتمثلة في زيادة الإيرادات النفطية أو الجوانب السلبية المتمثلة في ربط النفط بالتطورات السياسية الإقليمية، واقترحت الدراسة إنشاء مراكز للطاقة المشتركة بين دول المجلس لتحقيق ذلك التشابك.
وقالت الدراسة التي أعدها فاهان زانويان رئيس مجلس إدارة شركة "بي. إف. سي" العالمية للطاقة وعضو مجلس إدارة مدينة الطاقة في قطر ونشرت في النشرة الاقتصادية التي يصدرها بيت التمويل الخليجي، إن شركات النفط الوطنية في دول مجلس التعاون الخليجي حققت نجاحاً باهراً في تحسين قدراتها الفنية والإدارية في التعامل مع المشاريع الضخمة للتنقيب والإنتاج.
وفي الخليج برزت بعض شركات النفط الوطنية مثل "أرامكو السعودية" بحيث أصبحت شركات عالمية في مجالات أنشطتها بالنظر إلى مدى حجم عملياتها وتعقيدها. وعندما يتعلق الأمر بإدارة مشاريع نفطية برية ضخمة لا توجد أية شركة في العالم يمكنها التفوق على الأرقام القياسية والقدرات التي تتمتع بها "أرامكو". بينما قامت شركات أخرى بتطوير مواردها من الغاز الطبيعي بسرعة قياسية، وبخلاف "أرامكو السعودية" فإنها استغلت بالكامل إمكانية الاستفادة الفنية والسوقية من موارد الشركات الدولية العاملة في قطاعي النفط والغاز بدلا من بناء قدراتها الذاتية.
وتعد مؤسسة قطر للبترول مثال على الفئة الأخيرة وعلى ضوء الطابع الجديد للمخاطر الفنية ومخاطر السوق الناشئة من الغاز الطبيعي، فإنه لن يكون من المجدي بالنسبة لـ "قطر للبترول" أن تحاول بناء الخبرة الضرورية داخليا.ً ويعتبر نموذج "قطر للبترول" ونموذج "أرامكو السعودية" في تحويل الاحتياطات النفطية إلى موارد مالية من أهم قصص النجاح، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة ومع أن كلا منهما يختلفان في أسلوبهما.
وقد نجحت دول أخرى في منطقة الخليج، وبدرجات متفاوتة في جهودها لتحويل احتياطاتها النفطية إلى موارد مالية. فمن الواضح أن الإمارات تعد من التجارب الناجحة أيضاً بنموذجها في استخدام شركات النفط والغاز الأجنبية. وفي كل حالة من هذه الحالات كان المطلوب من أجل النجاح هو إما التمكن من القيام بالمهام المطلوبة ذاتياً وإما النجاح في إسناد المعلومات المهمة إلى جهات خارجية. وتشمل هذه المهام إدارة الاحتياطات والمكامن النفطية وإدارة المشاريع الضخمة والمعقدة جداً والمهارات الهندسية المتخصصة والقدرات التقنية المتقدمة في مجالات العمليات والحصول على الرساميل اللازمة وولوج الأسواق والاستفادة من القدرات التسويقية والحصول على تقنيات محددة.
إلا أن الدراسة تؤكد أن التحدي الكبير القادم الذي يواجه البلدان المصدرة للنفط والغاز في المنطقة يتجاوز مجرد تحويل احتياطاتها إلى موارد مالية، حيث يتعلق بدخول دول المنطقة مرحلة النضوج الاقتصادي والتنمية المستدامة. وفي هذا الصدد فإن ما تحقق حتى الآن مازال غير متكامل. وبوجه عام فإن الدول المصدرة للنفط لم تنجح حتى الآن في صياغة نموذج التنمية الاقتصادية المستدامة وقد حدث هذا على مستوى العالم بأسره ولا يسري فقط على منطقة الخليج وحدها.
ويعود السبب الجوهري في ذلك إلى التفاوت في الاعتماد على العائدات النفطية التي وفرت التمويل للموازنات الحكومية، وبالتالي قللت من الحاجة الملحة إلى تطوير أنشطة اقتصادية تتمتع بالقدرة الذاتية على الاستمرار. فلم تكن الحكومات مضطرة إلى الاعتماد على سبل إيجاد وتوفير القيمة الاقتصادية لتمويل موازناتها وإيجاد فرص العمل، فقد كانت هذه الحكومات تمول متطلبات موازناتها من خلال العائدات النفطية وقامت بتوفير فرص العمل للقوى العاملة المتزايدة من خلال الإنفاق الحكومي. لكن مصادر التمويل الحكومية والحسابات الخارجية وبرامج الإنفاق المحلية تظل جميعا تعتمد بشكل مكثف على العائدات النفطية، غير أنه بالنظر إلى التذبذبات الحادة في أسعار النفط، وبالتالي في الإيرادات النفطية الحكومية، فإن هذا النموذج يصبح غير مرغوب فيه وغير قابل للاستثمار على المدى البعيد.
ومن المعتقد أن إمكانية التطوير الاقتصادي للقطاعات الهيدروكربونية في منطقة الخليج تظل غير مستغله بالكامل، وقد يبدو هذا القول تشاؤميا إذا نظر المرء إلى الأوضاع المالية لهذه الدول وإلى الطفرة الإنشائية الهائلة التي تشهدها المنطقة بأسرها، لكن هذه التطورات هي محصلة النجاح في تحويل الاحتياطيات إلى موارد مالية بحيث تعد قطاعات النفط والغاز خارجة عن نطاق القطاعات الاقتصادية الأخرى، مع إنها جميعا توفر الموارد المالية اللازمة لتمويل الإنفاق المتواصل على البنية الأساسية.
وتؤكد الدراسة أن أفضل السبل للاستغلال الأمثل لإمكانات التطوير الاقتصادي للطاقة يتمثل في إيجاد الروابط بين قطاعات النفط والغاز وبقية القطاعات الاقتصادية الأخرى، إذ إن حجم إنتاج وصادرات النفط والغاز من منطقة الخليج يمكنه دعم الأنشطة الاقتصادية الثانوية والتكميلية الضخمة والمتنوعة التي تكون مطلوبة عادة لمساندة حجم معين من إنتاج النفط والغاز، إذ تقوم صناعة النفط والغاز عادة بإسناد أعمال لجهات خارجية بشكل دوري ومعتاد في مختلف المجالات والقطاعات، مثل: الخدمات الفنية، الآلات، خدمات النقل، عمليات المحاكاة والتصنيع، صيانة الحقول النفطية، الخدمات القانونية والمالية المتخصصة، تمويل المشاريع وخطوط الأنابيب وأعمال التركيبات وعدد ضخم آخر من الخدمات المساندة. وهذا الوضع أوجد بيئة خصبة للغاية بالنسبة لعدد ضخم من المؤسسات المختصة بتقديم هذه الخدمات، وتعتبر هذه الظاهرة هي الأساس لإنشاء مراكز رئيسة للطاقة في هيوستن، سنغافورة، كالغاري، ستانجر، وأبردين.
وفي الوقت الحاضر لا يوجد مثل هذا النوع من المراكز الاقتصادية في منطقة الخليج على الرغم من أن المنطقة تنتج وتصدر كميات أكثر من النفط والغاز مما تنتجه وتصدره أي من المراكز الأخرى المذكورة أعلاه. وتمثل هذه فرصة عظيمة لنقل عملية التنمية الاقتصادية في دول المنطقة إلى المرحلة التالية، أي من مرحلة إجراء التحسينات الجوهرية في البنية التحتية إلى إيجاد وسائل ذاتية دائمة للنمو الاقتصادي.
إن أولى الخطوات وأكثرها منطقية في إجراء عملية التحول هذه تتمثل في إنشاء مركز متكامل للطاقة مع توفير جميع الظروف الضرورية للجيل المقبل من الأنشطة الاقتصادية فوق الأرض، وهذا المركز المقترح للطاقة لن يشارك في العمليات الاستخراجية من صناعة النفط، وبعبارة أخرى فإن الأنشطة الحالية والجهات العاملة حالياً في أنشطة استخراج النفط والغاز من المكامن وتحويلها إلى موارد مالية ستظل كما هي دون تغير، وبالتالي فإن مهام شركات النفط الوطنية ووزارات النفط وكذلك مهام شركات النفط والغاز الأجنبية ستظل دون أي تغيير على الإطلاق في الإنتاج والتصدير الفعليين للموارد الكربونية.
وبدلاً من ذلك، فإن مراكز الطاقة المقترحة ستركز على إيجاد الظروف الضرورية لتوفير الخدمات الأرضية التي توجد حاجة ماسة إليها من قبل هذه الشركات والمؤسسات النفطية. فبخلاف الاحتياطات التي تكون عامة مملوكة للحكومات وخاضعة لسيطرة شركات النفط الوطنية، فإن القدرات التقنية والإدارية الأرضية تملكها وتوفرها منشآت القطاع الخاص. وبخلاف صناعات الاستخراج فإن هذه الأنشطة ستخلق الطلب على أنواع محددة من التعليم والتدريب، مثل: الهندسية الجيولوجية، الفيزياء، الكيمياء، الدراسات البيئية، وغيرها. كما أنها ستجتذب استثمارات خليجية وأجنبية ضخمة في مجالات خدمات الحقول النفطية وتصنيع الآلات والخدمات التقنية اللازمة للصناعة النفطية.
ومن خلال أنشطتها الذاتية ذات القيمة المضافة العالية، فإن مراكز الطاقة ستضيف قطاعاً اقتصادياً جديداً بالكامل إلى الاقتصاد في منطقة الخليج وسيكون مصدراً جديداً لتحقيق الدخل وتوفير فرص العمل، كما سيكون مصدراً جديداً لخلق الثروات. وسيكون المركز مصدراً جديداً لكسب إيرادات من الصادرات وهذا من شأنه الإسهام في التنويع الذي تشعر اقتصاديات المنطقة أنها في حاجة ماسه إليه.
وفي الواقع فإن منطقة مثل منطقة الخليج يمكنها إن تقيم أكثر من مركز واحد للطاقة، بحيث تركز كل منها على جوانب مختلفة وأنشطه متنوعة ويتوقف ذلك على عناصر القوة المتاحة لدى البلد المضيف، فكل دولة من دول الخليج تقريباً لديها شيء مختلف عن غيرها بحيث يكون ما تقدمه كل دولة سبباً من أسباب نجاح المركز الإقليمي المقترح، وهذا لأنه على الرغم من التشابه العام فيما بين دول المنطقة فإنها في واقع الأمر مختلفة من حيث مواردها وثرواتها الهيدروكربونية في طرق وسائل التحكم وإدارة قطاعاتها الهيدروكربونية.

الأكثر قراءة