متغيرات قطبية
الإعلان الأخير لهيئة الرصد الجيولوجية الأمريكية أن المنطقة القطبية تحتوي على احتياطيات هيدروكربونية ضخمة من النفط والغاز يثير الاهتمام من عدة زوايا, كما يستحق المتابعة لملاحظة تأثيراته على السوق النفطية التي لا تزال تترنح تحت ضربات الصدمة النفطية الثالثة التي يضاعفها حالة من الغموض عدم الوضوح، بل وما وراء ذلك من تبعات جيوسياسية.
فبعد أربع سنوات من البحث والتقصي خلص المسح الذي قامت به الهيئة إلى أن منطقة الدائرة القطبية تحتوي على 90 مليار برميل نفط و1670 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي, وكلها تنتظر الاستغلال. الكميات النفطية هذه تمثل نحو 13 في المائة من إجمالي النفط غير المستغل، بينما تصل نسبة إلى 30 في المائة. فالاحتياطيات الموجودة حاليا تبلغ 1.24 تريليون برميل نفط و 6263 تريليون قدم مكعب من الغاز.
أولى الملاحظات على هذه الاكتشافات أنها تلقي بضربة شبه قاضية إلى نظرية ذروة النفط التي راجت لفترة طويلة، ومؤداها أن العالم قد وصل إلى قمة الإنتاج النفطي، الذي هو في طريقه إلى الانحدار. واعتبرت الأسعار العالية التي تشهدها السوق في الوقت الراهن إحدى نتائج هذه المرحلة أكثر منها نموا متصلا في الطلب لفترة تجاوزت الست سنوات إضافة إلى دخول مستهلكين جددا لم تعهدهم السوق من قبل خاصة في آسيا والدول النامية وتحديدا منطقة الشرق الأوسط.
وحتى إذا لم تقض هذه الاكتشافات على نظرية ذروة النفط فستضعفها بالصورة التي لا تجعلها عاملا مؤثرا في الحسابات الجارية، وتقوي بذلك من وجهات النظر العديد من أركان الصناعة مثل الدول المنتجة والشركات النفطية. فالسعودية مثلا وعبر وزير النفط المهندس علي النعيمي والمدير التنفيذي لشركة أرامكو عبد الله صالح جمعة، ما فتئا ينتهزان المناسبات مثل المؤتمرات النفطية وغيرها للإشارة إلى أن العالم لا يعاني شحا في الاحتياطيات، وأن ما هو موجود وقد يتجاوز الأربعة ترليونات برميل نفط تمثل تحديا تقنيا واستثماريا ضخما لابد من مواجهته، وها هي الأيام تثبت صدق توقعاتهما.
النقطة الثانية أن نتائج المسح هذه ستنقل اهتمام الصناعة التي تلك المنطقة، فمثلما شكلت الولايات المتحدة والشرق الأوسط ومناطق أخرى متفرقة فيما بعد مثل بحر الشمال وأخرها دول بحر قزوين أهدافا لحملات الشركات الباحثة عن احتياطيات كونها مناطق وعد جديدة، فإن المنطقة القطبية تتجه إلى أن تصبح منطقة السبق والجذب التي ستتركز عليها الأنظار. ويظهر هذا في أن العديد من الشركات الكبرى استثمرت أكثر من مليارين ونصف المليار دولار للحصول على تراخيص في البلدان المعنية تسمح لها إيجاد موطئ قدم في تلك المناطق وذك خلال هذا العام فقط.
وجدير بالذكر أنه في الوقت الذي كانت فيه غالبية مناطق الاحتياطيات النفطية تعاني متاعب سياسية واقتصادية، فإن المنطقة القطبية تحاذي كلا من الولايات المتحدة، كندا والاتحاد السوفياتي، وهي تتواجد في أماكن أقرب إلى الشواطئ مما يجعلها أقل عرضة إلى حدوث نزاعات حدودية بين هذه الدول، لكن في واقع الحال فإن احتمال حدوث حمى سباقية لتأكيد سيطرة هذه الدول على المناطق القطبية التي توجد فيها هذه الاحتياطيات الهيدروكربونية يظل قائما، وفي الذاكرة أن روسيا قامت قبل عام بتثبيت علمها على عمق أربع كيلومترات في قاع المحيط، الأمر الذي يشير إلى توجسها من تصرفات الآخرين وردود الفعل الغاضبة التي وردت من الدول الأخرى، وهذا ما يعيد التركيز على فكرة عقد قمة في جرينلاند للدول التي لها صلة بصورة أو أخرى بتلك المنطقة للبحث في كيفية التعاون وكي لا تفلت الأمور من اليد بسبب التسابق.
يبقى انتظار معرفة نتائج هذا الإعلان على مستويين: الجانب البيئي خاصة والطاقة الأحفورية تعتبر من أكبر الملوثات، ولهذا تتعرض لتمييز في مختلف الجوانب في الدول الصناعية خاصة ما أدى إلى شكاوى كثيرة من الدول المنتجة. وإذا ما أصبحت هذه المنطقة منتجا رئيسيا للطاقة الأحفورية فإن جزءا من اللوم والمسؤولية وبالتالي التركيز سيكون على تلك المنطقة والدول التي تنتج النفط والغاز هناك، الأمر الذي يمكن أن يدفع إلى تركيز العمل والانتباه والاستثمارات على الجانب التقني بأمل إيجاد حلول تواجه معضلات التلوث البيئي.
أما المستوى الآخر فيتعلق بالمتغيرات على المستوى الجيوسياسي، فمنطقة الشرق الأوسط اكتسبت لها أهمية إضافية إلى جانب موقعها الاستراتيجي بوجود هذه المادة التي قامت عليها الحضارة الحديثة واكتسبت لها خاصية تميزها عن أي سلعة أخرى وذلك بإضافة صفة استراتيجية إليها.
فهل سيؤدي بروز منطقة جديدة وفي النصف الغربي من الكرة الأرضية وباحتياطيات كبيرة من النفط والغاز إلى تغيير في الموازين الاستراتيجية؟ من المبكر القطع بحديث في هذا الإطار، فهناك عدة خطوات أساسية لا بد من قطعها لتصبح تلك المنطقة مهددا جديا وعلى رأسها تحويل تلك الاحتياطيات إلى إمدادات فعلية وفوق هذا أن يتم أن تاجها بصورة تنافسية وقادرة على مواجهة التكلفة المنخفضة في منطقة الشرق الأوسط.