أسعار النفط تضغط على شركات البتروكيماويات وتجبرها على إعادة ترتيب أوراقها
تعد الصناعات البتروكيماوية من الصناعات الأكثر نمواً وتطوراً في العالم، وذلك لأن منتجاتها باتت ركيزة رئيسة في كل الصناعات تقريباً من صناعة البناء والصناعات الطبية إلى إنتاج المفروشات وحتى إنتاج وسائل النقل كلها تعتمد المواد البتروكيماوية كمواد أولية فيها.
الصناعات البتروكيماوية خصبة وواعدة، وهناك الجديد باستمرار، وتعتبر آليات البحث والتطوير في هذا المجال نشطة وتصرف عليها مبالغ طائلة حتى أصبح عدد المركبات والمنتجات البتروكيماوية النهائية والمتخصصة يزيد على أربعة آلاف منتج. لكن تبقى المواد الأولية أو الأساسية ثابتة، وهي: الإيثيلين، البروبيلين، البيوتاداين، البنزين العطري، الزايلين، الأمونيا، والميثانول، حيث إن معظم المنتجات البتروكيماوية الموجودة حالياً تتفرع من هذه المواد الأساسية والتي يمكن استخراجها وإنتاجها سواء من النافثا (كما هي الحال في أوروبا وآسيا) أو من الغاز المصاحب (كما في المملكة وبعض دول الخليج) أو من المشتقات النفطية الأخرى في المشاريع البتروكيماوية المتكاملة مع المصافي.
إن ارتفاع أسعار النفط قد أدى إلى ارتفاع أسعار اللقيم (وبحسب بعض التقديرات أن نحو 25 في المائة من النفط يستعمل لقيما للصناعات البتروكيماوية) في بعض الأحيان بأكثر من 200 في المائة، ما أثر في أرباح الشركات البتروكيماوية، لا سيما وأن أسعار الطاقة قد زادت أيضا بنحو 60 إلى 100 في المائة، الأمر الذي عقّد الكثير من أوضاع الشركات البتروكيماوية وزادها صعوبة، لأن هذه الشركات قد اضطرت إلى رفع أسعار منتجاتها كما فعلت "داو كيميكال" قبل فترة.
ولكن تكمن المعضلة أنه كلما ارتفعت أسعار البتروكيماويات خفّ الطلب عليها واتجه الناس إلى البدائل المتوافرة التي قد تكون أقل سعراً. وعلى سبيل المثال إذا ارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية البلاستيكية المنزلية كثيرا فإن كثيرا من الناس سوف يقلل من استخدامها ويتجه أكثر إلى المواد المصنوعة من الزجاج والفخار أو حتى الورق. وعليه يرى كثير من المختصين أن أول من يتأثر بالارتفاعات بأسعار النفط هي الصناعات البتروكيماوية، حيث يخف الطلب عليها لأن الكثير منها هي منتجات تكميلية ويمكن الاستغناء عنها بمواد أخرى. وبعد أن يخف الطلب على المواد البتروكيماوية يبدأ الطلب على الوقود بالتناقص لارتفاع سعره، فيبدأ الطلب العالمي على النفط أيضا بالانخفاض، ويبدأ ما يعرف بالانكماش أو بطء نمو الاقتصاد العالمي.
ومن هنا يتضح أن وضع الشركات البتروكيماوية العالمية ليس سهلاً, فهو مرتبط مباشرة بأسعار النفط وبنمو الاقتصاد العالمي والدورات البتروكيماوية، حيث يخف ويزيد الطلب على البتروكيماويات بحسب وقت الدورة، وبحسب ظروف الاقتصاد العالمي، لذلك فإن معظم الشركات البتروكيماوية بحاجة دائماً لتدارس أوضاعها لتتأقلم مع الارتفاعات الكبيرة في أسعار اللقيم، ويبدو أن الاتجاه إلى إنتاج المواد المعتمدة على التقنيات المتطورة ولو بكميات أقل هو هدف معظم الشركات البتروكيماوية لتحسين أرباحها، لأن إنتاج المواد المتخصصة والمتطورة لا يحتاج إلى كميات كبيرة من اللقيم وفى الوقت نفسه تمتاز هذه المواد بارتفاع أسعارها وعلو ربحيتها.
ضمن هذا السياق، أعلن في الفترة الأخيرة عن نية "داو كيميكال" الاستحواذ على شركة "روم وهاس" الأمريكية للمواد الكيميائية المتخصصة، في خطوة مهمة لمرحلة إعادة التشكيل وترتيب الأوراق لما يسمى "داو كيميكال الغد" ويبلغ قيمة الصفقة نحو 19 مليار دولار، حيث بلغ قيمة السهم 78 دولارا ونحو 3.5 مليار دولار لدين شركة "روم وهاس".
ولعمل مقارنة بسيطة بين الشركتين، فإن مبيعات "داو كيميكال" قد وصلت في العام الماضي إلى 53.5 مليار دولار، بينما وصلت قيمة مبيعات "روم وهاس" إلى نحو تسعة مليارات دولار، أي أن مبيعات "داو" أكبر من مبيعات "روم وهاس" بنحو ست. وستفتح هذه الصفقة الباب واسعاً لـ "داو"، التي تعد من أكبر منتجي المواد البلاستيكية الأولية من بولي إيثيلين، بولي بروبيلين، بولي ستايرين، بولي يورثين، المطاط الصناعي، وكثير من القطع المستخدمة في صناعة السيارات وصناعة مواد البناء، إضافة إلى المواد العازلة والكابلات. ومن المفيد ذكره أنه عام 2007م بلغت نسبة مبيعات "داو" من المواد الأساسية التي تشمل البلاستيكيات المختلفة والمواد الكيميائية الأساسية والمواد الهيدروكربونية نحو 25.846 مليار دولار، بينما بلغ قيمة مبيعاتها للمواد الأدائية نحو 27.246 مليار دولار.
في الجهة الأخرى، تعتبر شركة روم وهاس رائدة في صناعة الدهانات والأصباغ (أعلن في الفترة الأخيرة عن إقامة مشروع مشترك في الجبيل بين "روم وهاس" وشركة التصنيع الوطنية والصحراء لإنتاج 250 ألف طن سنوياً من حامض الإكريليك، وتبلغ قيمة المشروع 700 مليون دولار). وتشتهر الشركة أيضا بصناعة المواد الكهربائية، مواد التغليف، والصناعات ذات الاستخدام الطبي، وتصنع الشركة أيضا الكثير من المواد الحفازة التي تساعد على تسريع التفاعلات.
الحقيقة أنه عند الدخول إلى موقع الشركة الإلكتروني يندهش المرء من كثرة منتجاتها النهائية التي تخدم المجتمع والفرد، ولا يمكننا إلا أن نعجب بهذه الصفقة المدروسة التي تم التفكير فيها برفق وعناية، والتي ستجعل "داو كيميكال" من أهم الشركات في إنتاج المواد البتروكيماوية المتخصصة. الحقيقة وبشهادة "مودي" فان "روم وهاس" تكمل "داو كيميكال" في كثير من الصناعات وتفتح لها الكثير من الفرص، وسوف تجعل هذه الصفقة من "داو" أكبر شركة في العالم لإنتاج المواد الكيميائية المتقدمة والمتخصصة. يذكر أنه قبل الصفقة كانت "باسف" الألمانية أكبر شركة كيماوية في العالم.
لا شك أن "داو" درست هذا الاستحواذ منذ فترة، وكان هناك الكثير من الشائعات بخصوص قيام "داو" بالاستحواذ على شركة ما خاصة بعد بيع "داو" بعض من حصتها في بعض شركاتها الخارجية على شركة البتروكيماويات الكويتية المملوكة للحكومة PIC بقيمة 9.5 مليار دولار عام 2004م (بهذه الصفقة الكويتية تم تأسيس شركتين بترو كيماويتين هما MEglobal وEquipolymers، وهاتان الشركتان مملوكتان لـ "داو كيميكال" وPIC بنسبة 50 في المائة لكل منهما).
وجود هذه القيمة العالية من السيولة عند "داو" كان قد رفع من التكهنات أن هناك استحواذا ما في الأفق، ووصلت الشائعات قمتها عام 2007م حتى تم إعلان صفقة الاستحواذ على "روم وهاس". ومن الجدير بالذكر أن بيت الاستثمار الكويتي سيسهم بمليار دولار في هذه الصفقة. ويبقى أن نعلم أن هذا الاستحواذ قد أعطى "داو" الكثير من التقنيات المهمة والملهمة التي بلا شك ستفتح لها آفاق عالية وأسواق جديدة.
وارتفع سهم "روم وهاس" بنحو 29 دولارا ليصبح سعره نحو 74 دولارا في أعقاب إعلان الصفقة، بينما انخفض سهم "داو كيميكال" نحو 1.5 دولار ليتداول عند نحو 32 دولارا. وكانت "داو كيميكال" قد استحوذت على شركة يونين كربايد عام 2001م بصفقة بلغت 11.6 مليار دولار لتنضم الشركة بشكل كامل ومتناغم إلى "داو كيميكال".
نحتاج في المملكة لمثل هذه الشركات (روم وهاس) التي تقوم بإنتاج المواد النهائية التي تباع كمواد استهلاكية. وجود مثل هذه الشركات في الجبيل وينبع ورابغ سيسهم في نقل الصناعة السعودية من الصف الأول والأساسي (إنتاج المواد الأولية الخام مثل البلاستيك الخام والجلايكول والميثانول) إلى الصف الثاني الذي يقوم على استخدام المواد الأولية في الصناعات النهائية. يجب أن نعمل على تخفيض تصدير المواد البتروكيماوية الأولية أو الخام حتى نزيد من قيمة صادراتنا وصناعاتنا، بهذا نكون قد قدمنا مصلحة الوطن والأجيال على مصلحة الأفراد الضيقة. شركاتنا البتروكيماوية حققت الكثير في العشرين سنة الماضية ولا بد من التقدم أو التقادم.