فجر ضبابي
في الوقت الذي تتوطد فيه القناعة أن العالم دخل مرحلة الصدمة النفطية الثالثة، يبدو أن إيقاع الأحداث المتسارع يدفع باتجاه الصدمة النفطية الرابعة ولما تستقر الأمور بعد بالنسبة للصدمة الثالثة، أو هذا ما يمكن استقراؤه من بعض التحليلات مثل تلك الخاصة برابطة كمبريدج لأبحاث الطاقة، التي ترى أنه بعد عبور سعر البرميل 150 دولارا، تدخل الصناعة النفطية مرحلة تكتسب فيها قوة دافعة ذاتية تعيد تشكيل وصياغة العلاقات بين مختلف الأطراف وبصورة تتجاوز ما هو سائد حاليا.
ومع القفزات المتتالية لسعر البرميل وتجاوزه 143 دولارا، والأفق المأزوم خاصة مع تزامن عاملي الطلب المستمر في التصاعد والبعد الجيوسياسي الذي أصبح يفرض نفسه كما تمثله الحالة النيجيرية، حيث أدى العنف السياسي إلى إضعاف عنصر الإمدادات، فإن أي قفزة تتجاوز حتى حاجز 150 دولارا لا تبدو أمرا مستبعدا، خاصة أن السوق شهدت من قبل قفزة في يوم واحد في حدود 11 دولارا، هو سعر البرميل قبل عقد من الزمان.
التقرير الدوري الأخير للوكالة الدولية للطاقة يعيد تركيز الانتباه إلى جانب الإمدادات رغم ضعف النمو وتجاوز العرض للطلب بنحو مليوني برميل يوميا فقط في غضون سنوات خمس، وهو ما يعتبر غطاء غير كاف في وجه احتمالات الانقطاعات المحتملة بشدة.
كما تعد الاتهامات الموجهة إلى المضاربين أنهم السبب وراء التصاعد الكبير في الأسعار عملية هروب إلى الأمام. والإشارة فيما يبدو إلى المسؤولين في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، الذين دأبوا على تحميل المضاربين جزءا كبيرا من مسؤولية الارتفاع السعري الذي تشهده السوق، وكذلك على بعض أعضاء الكونجرس، مع ما بين الطرفين من تباعد، ورغم أن الكونجرس يتصرف من منطلق البحث عن شماعة يعلق على رقبتها المسؤولية ودون الالتفات إلى الجراحات المؤلمة التي يحتاج إليها نمط الحياة الأمريكية للتواؤم مع متغيرات عالم اليوم.
وصفت الوكالة على لسان رئيسها نوبو تاناكا العالم بأنه أصبح فعلا في قبضة الصدمة النفطية الثالثة، وأنه مع استمرار الهاجس من ضعف الإمدادات بسبب ما تعانيه عمليات الإنتاج خارج (أوبك) من تراجع واضمحلال، فإنه حتى الطاقة الإنتاجية الفائضة داخل (أوبك) لا توفر السند الكافي لضمان تغطية أي انقطاع، وعبر عن هذا الموقف رئيس المنظمة الوزير الجزائري شكيب خليل من أن (أوبك) لن تستطيع التعويض عن أي انقطاع في الإمدادات الإيرانية فيما إذا تطورت الملاسنات بينها وبين الدول الغربية وربما إسرائيل إلى مواجهة يبدو سلاح النفط مرشحا للإشهار مرة أخرى ولو من باب الدفاع عن النفس كما ترى طهران. وهذا طبعا هو السيناريو الذي يخشى حدوثه الجميع ويبدو الأكثر احتمالا للحدوث.
إلى جانب هذا هناك الضعف على امتداد سلسلة الصناعة النفطية في مجالي العمليات الأمامية والنهائية، خاصة في ميدان التكرير، لكن يبقى تزامن الضعف في جانب الإمدادات مع العامل الجيوسياسي هو العنصر المجرب في تفجير الصدمات النفطية كما حدث من قبل.
الصدمة الأولى برزت بسبب تزامن عاملي الطلب مع تفجر إحدى دورات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والثانية فرضت نفسها بعد سنوات خمس وبسبب شعور بالخوف وتمدد حالة الهلع من نقص الإمدادات الناجم عن الثورة الإيرانية، رغم أنه في واقع الأمر لم يكن هناك نقص فعلي، لكنه الانطباع الذي أسهم في توليد حقائق على الأرض قارب بموجبها سعر البرميل 40 دولارا لأول مرة في تاريخه.
الجديد الأبرز هذه المرة أن العامل الجيوسياسي أسهم بصورة فاعلة في الحد من إمكانات تدفق إمدادات يحتاج إليها السوق، وذلك من خلال اعتقال إمكانية تطوير قدرات إنتاجية في بلدان ذات احتياطيات ضخمة يأتي على رأسها كل من العراق وإيران ونيجيريا ولمختلف الأسباب.
وإذا كانت المواجهة والمقاطعة والعنف الأهلي أو ذلك ببعده الخارجي هي الشماعات التي يمكن تعليق الأسباب عليها المانعة لتدفق إمدادات إضافية من هذه الأسواق، بل تراجعها في بعض الأحيان مثلما هو حادث في نيجيريا، فإن الوجه الآخر من الصورة يشمل بروز مناطق جديدة للطلب في آسيا وإفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، وعلى حساب المناطق التقليدية في القارتين الأوروبية والأمريكية.
لكن بغض النظر عما يمكن أن ينتهي إليه العامل الجيوسياسي، فإنه سيكون عامل تسريع للعامل الآخر المتمثل في نمو الطلب وضعف الإمدادات. وبما أن تجارة النفط ذات بعد عالمي فإن أي سعر يتم الحصول عليه في أي مكان يصبح معيارا لبقية الأسواق، وينعكس بالتالي عليها كلها وعلى السلع التي يتم تداولها خاصة والبلاد الآسيوية أصبحت رقما مهما في المعادلة الدولية كمصدر رئيس للمواد المصنعة وغيرها.