نظرة من نيودلهي
صادف انعقاد مؤتمر جدة أن كنت بعيدا في نيودلهي للمشاركة في مؤتمر عن قضايا الطاقة من زاوية العلاقة الهندية بالقارة الإفريقية، التي برزت في الفترة الأخيرة منطقة إمدادات نفطية واعدة.
مداولات مؤتمر جدة كانت تفرض نفسها على كل مكان، لذا كان مثيرا متابعة ردود الأفعال، خاصة والقضايا التي كانت مطروحة في مؤتمر نيودلهي تتأثر بما يجري في السوق، وليس هناك أهم من سعر البرميل وتأثيره في المنتجين والمستهلكين من الدول الإفريقية.
وبما أن المؤتمرين في جدة انتهوا إلى ما كان متوقعا من صعوبة التوصل إلى توصيف متفق عليه لما يجري في السوق، ومن ثم تحديد الحلول التي تعالج الوضع الحالي، بما يؤكد أنه ليست هناك حلول عاجلة في الأفق، فإن القضايا التي كانت مطروحة على طاولة النقاش في نيودلهي تظل ذات أهمية تستحق التناول.
أولى الملاحظات التي يمكن ذكرها ما أكد المؤتمرون في دلهي من غياب للمعلومات التي يمكن أن تبنى عليها السياسات. ويظهر هذا في أنه حتى عام 2005 كانت الدول الغربية بقيادة بريطانيا توني بلير وقتها تتبنى موقفا يدعو الدول الكبرى للاهتمام بالقارة الإفريقية التي لا حول لها ولا قوة، لأنها أصبحت مسرحا للحروب الأهلية والمجاعات.
لكن بعد بضعة أشهر فقط من الضجة الإعلامية التي صاحبت تبني تلك الاستراتيجية "اكتشف" الغرب فجأة أن الصين والهند يحتلان مواقع متقدمة فيما يتعلق بالتنقيب عن النفط، الأمر الذي تحول في الحديث عن الهجمة الصينية، وفيما بعد الهندية على القارة، والتأكيد على لعنة النفط التي تصيب الدول المصدرة للخام.
وكما لاحظ أحد المتحدثين، فإن الغرب هو الذي اكتشف هذه الحقيقة متأخرا، بينما الصين موجودة في القارة منذ أكثر من 30 عاما، في الوقت الذي تخلت فيه الدول الغربية عن مشاريع التنمية في القارة تحت مختلف الذرائع.
وتعبير "اكتشاف" نفسه يؤكد المقاربة الاستعمارية، إذ إن القارة وناسها كانوا موجودين، أي أنهم لم يظهروا إلى الوجود لأن مجموعة من الغربيين "عرفت" فقط بوجودهم في وقت معين. واستتبع هذا التساؤل إذا كانت القارة ستتعرض إلى هجمة تسابقية جديدة، كما حدث من قبل في مؤتمر برلين في القرن التاسع عشر الذي تقسمت بموجبه القوى الأوروبية القارة الإفريقية مناطق نفوذ.
بالطبع الظروف مختلفة، لكن الملاحظة المهمة هنا تتعلق بالتناول الآسيوي للتعامل مع القارة الإفريقية. فقد سبقت الصين بعقد قمة صينية ـ إفريقية قبل قرابة العامين. وأعقبتها اليابان بعقد قمة مماثلة، وفي نيسان (أبريل) الماضي عقدت الهند قمة مماثلة تبنت فيها أسلوبا مختلفا، وهو دعوة كل إقليم في القارة ليقدم متحدثا باسمه، وهكذا حضر رؤساء يوغندا، إثيوبيا، السنغال، جنوب إفريقيا، وغانا متحدثين نيابة عن أقاليمهم.
وفي واقع الأمر، فإن التعامل يتم في نهاية الأمر على أساس فردي، لكن التأكيد على التفاهمات العامة يبدو مهما، وهو ما يضيف إلى تجربة مؤتمر جدة التي جمعت كل المعنيين بأمر الطاقة تحت سقف واحد.
أحد النقاط الجديرة بالانتباه ما أوضحه أحد المتحدثين الفرنسيين، وأكد نيجيري، عن التوجه الأمريكي نحو القارة الإفريقية وغربها تحديدا للتركيز عليها مناطق للإمدادات النفطية بديلا لمنطقة الخليج المسكونة بالقلاقل، من أن هذا التوجه تم على خلفية توجهات إسرائيلية استفادت من المناخ المعادي لمنظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك). وتمكن هذا التوجه من تحقيق نمو ملحوظ في الإمدادات من غرب إفريقيا تجاوزت ما يصل إلى السوق الأمريكية من السعودية مثلا، لكن أحد التطورات المثيرة أن عملية التمرد الجارية في منطقة دلتا النيجر في نيجيريا، وهي منطقة الإنتاج النفطي الرئيس هناك، أدت في الأشهر الأخيرة إلى تخلي نيجيريا، ولأول مرة، عن مرتبة أكبر منتج ومصدر للنفط في القارة الإفريقية لصالح أنجولا، النجم الصاعد في سماء القارة والإنتاج النفطي حتى داخل (أوبك).
معنى هذا أن السعي للهروب وتجاوز عقبة الهموم العربية انتهى بالوقوع في مستنقع الهموم الإفريقية المرتبطة بقضايا بناء الدولة وحكم القانون بما يؤثر في استقرارية وضع الإمدادات بصورة عامة.
وعبر أندرو ناتسيوس المبعوث الأمريكي الخاص السابق إلى السودان عن هذا بقوله إن المتاعب التي تحيط بالسودان تحتاج إلى تعامل مختلف من قبل واشنطن. فرغم أن السودان منتج صغير، إلا أن كون زبائنه الرئيسين هم الصين والهند وماليزيا، فإن أي عدم استقرار فيه ينتهي بوقف هذه الصادرات سيدفع هذه الدول إلى البحث عن تعويض لها في السوق العالمية. وبسبب حالة الضغط التي تعيشها هذه السوق، فإن هذا سيدفع بالأسعار إلى أعلى، الأمر الذي سيشعر به المستهلك الأمريكي حتى داخل الولايات المتحدة. وهو ما يؤكد عالمية الصناعة وتحدياتها التي تتطلب استجابة مماثلة.