اجتماع جدة للطاقة: الموقف الموحد
تضمن بيان مؤتمر جدة ما يمكن أن يوصف بأنه موقف موحد وقرار جماعي حول أسعار النفط العالمية المرتفعة الذي صاغته المنظمات الثلاث، ومعبرً عن آراء 38 دولة تنتمي إلى تلك المنظمات. ولقد مثلت كلمة جوردن براون رئيس وزراء بريطانيا أمام اجتماع جدة للطاقة ما يمكن أن يوصف بأنه تلخيصً لوجهة نظر الدول المتقدمة الكبرى أو "مجموعة الثماني"، وباستثناء ما جاء فيه من دغدغة للمشاعر العامة وحماة البيئة والعمل على تطوير بدائل للنفط وإيجاد طاقة نظيفة، إلا أنه توجه بدا أنه في المسار الصحيح. وستتوقف عند بعض من المحطات التي تعتزم الدول الكبرى إنشاءها على ذلك المسار الذي بدأ من محطة الدعوة إلى إبرام "اتفاق جديد لاستقرار سوق النفط في العالم"، وقدر لذلك المسار أن يبلغ منتهاه عند محطة العمل على "إيجاد بديل نظيف ورخيص للنفط".
المحطة الأولى: سوق طاقة أكثر توازنا
وذلك بإيجاد طريقة جديدة لاستقرار سوق النفط في العالم، حيث قال براون في كلمته أمام المؤتمر، إن الأزمة الحالية أسوأ من الأزمة التي شهدها العالم في السبعينيات من القرن الماضي، وناشد الدول المجتمعة في جدة بإيجاد طريقة جديدة لاستقرار سوق النفط في العالم. تأمين الطلب مستقبلا على هذه السلعة المهمة والحيوية، مشيرا إلى أن أوضاع سوق النفط تتسم أحيانا بعدم الاستقرار، لذا لابد من إيجاد طريقة للتغلب على ذلك، ودعا إلى "سوق طاقة أكثر توازنا".
المحطة الثانية: الترشيد في الاستهلاك وتقليل الطلب
شدّد على مسألة ترشيد الطاقة واعتبرها من أهم العوامل التي تؤدي إلى خفض أسعار النفط، ودعا إلى التعاون بين الدول المصدرة والمستهلكة وبالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة لحل هذه المشكلة، وبتقليل الطلب ولو جزئيا على هذه السلعة.
المحطة الثالثة: تخفيض أسعار نقل النفط
شدد على مسألة تخفيض أسعار نقل النفط من مكان لآخر لتنخفض إلى نحو 40 في المائة من تكلفتها الحالية في السنوات القليلة المقبلة.
المحطة الرابعة: الاستثمارات في مجال الطاقة
أشار إلى أن بريطانيا تتبع سياسة مفتوحة تتسم بالشفافية في المعطيات والتعامل مع الاستثمارات في مجال الطاقة. وقال "كل ما نحتاج إليه في سوق النفط العالمية هو الاستقرار في أسعار النفط، كما يجب أن تفتح الدول المصدرة للنفط المجال أمام الاستثمارات الكبيرة في مجال النفط وإتاحة الفرصة للدول المستهلكة للاستفادة منها".
المحطة الخامسة: مساعدات الدول النامية
وعد رئيس وزراء بريطانيا بدراسة مشتركة مع البنك الدولي للعوامل المالية وأثرها في استقرار سوق النفط، ووعد بالقيام "بدراسة العوامل المالية وأثرها في استقرار سوق النفط، ويجب أن يشارك البنك الدولي بشكل فاعل في تخفيف الحد على الدول النامية والدول غير القادرة على مواكبة الأسعار، فهذه مشكلة ذات صفة عالمية لا يجب التعامل معها بصفة فردية عن كل دولة على حدة"، وأكد أهمية تدخل الزعماء السياسيين في الدول المعنية وتكاتف جهودهم من أجل الخروج بحلول تساعد جميع دول العالم على هذه الأوضاع.
المحطة السادسة والأخيرة: تنويع مصادر الطاقة
أكد ضرورة تكاتف الجهود العالمية وتنويع مصادر الطاقة وعدم الاعتماد على المصادر التقليدية وحدها، وذكر أن ذلك يعطي الدول المصدرة للبترول الفرصة للحفاظ على احتياطياتها من النفط للأجيال القادمة. وأبدى رغبة بلاده في قيام البلدان المنتجة للبترول باستثمار بعض أرباحها في مشاريع طاقة طويلة الأجل في بريطانيا تشمل الطاقة الهوائية والنووية.
وبنظرة سريعة على هذه المحطات نجد أن قطار براون لم يتوقف عند محطة مهمة جداً في مساره الطويل ذلك، ألا وهي محطة الرسوم والضرائب التي تحصلها الحكومات في الدول الصناعية على المشتقات النفطية كالبنزبن وزيوت التدفئة، والتي في حقيقتها تثقل كاهل المستهلك وتثير استياءه.
وبنظرة تجرد فإن الأسعار الحالية للنفط الخام ليست بالحجم الذي يتصوره المستهلك في الدول الصناعية من جراء استهلاكه البنزين أو زيوت التدفئة، بل إنها أقل بكثير من ذلك، وفي بعض الأحيان أقل من النصف عما يدفعه المستهلك ويتم تحصيلها من الحكومات من خلال رسوم وضرائب يدفعها المستهلك زيادة على القيمة الفعلية لمشتقات النفط، ففي بلد براون نفسه، أي "بريطانيا"، فتمثل الضرائب والرسوم على المشتقات البترولية أعلى نسبة في العالم، حيث إنها تزيد على نصف ما يدفعه المستهلك للتر البنزين مثلاً.
وفي الوقت الذي نرى بوضوح قدرة الاقتصادات الكبرى للدول المستهلكة على استيعاب الزيادة في أسعار الخام، إلا أن التضخم عائدَ للضرائب والرسوم وارتفاع أسعار المشتقات في الدول الصناعية التي تزيد من معدلات التضخم. ووجه الغرابة في ذلك أن براون لم يسقط تلك المحطة من جدوله سهواً، بل أسقطها قصداً وبسبق الإصرار، فلقد كتمت حكومة براون نفسه اقتراح قدمه الرئيس الفرنسي قبل أيام، وأوصى فيه بتخفيض الحكومات الأوروبية تلك الضرائب والرسوم لغرض الحد من التضخم. وفي ظل مظاهرات واحتجاجات المستهلكين في أوروبا وأمريكا الشمالية على ارتفاع أسعار المشتقات المستمرة، حاول قطار السيد براون دمج تلك المحطة المهمة مع محطة أخرى شبيهة لها، وهي محطة الضغط على دول كالهند والصين وغيرها لتحرير أسعار الطاقة في بلدانها.
وبالرغم من أننا لا ننفي أهمية تلك المحطة، إلا أن المدى الذي وصلت إليه دول أوروبا وأمريكا الشمالية في الضرائب والرسوم عالٍ جداً وأحد أسباب التضخم، وقد سعت تلك الحكومات حالياً إلى رفع الدعم جزئيا عن مشتقات البترول، ولكن هشاشة اقتصادات تلك الدول التي تدعم الوقود لمواطنيها لا تتحمل إجراءات اقتصادية مفاجئة بتحرير أسعار الطاقة تماما، وفي خلال وقت قصير لما لها من تبعات اجتماعية وسياسية لا تتحملها تلك الحكومات النامية. لذا فعلى قطار السيد براون التوقف عند محطة الضرائب والرسوم في أوروبا وأمريكا الشمالية، وهي محطة مهمة جداً للتزود بالوقود لقطار السيد براون حتى يمكنه تكملة الرحلة الطويلة التي بدأها في جدة، على أمل تخفيف حدة الضغوط الداخلية من المستهلكين على حكوماتهم في الدول الصناعية الكبرى وإمكانية التكيف معها.