التقريب بين مصالح المنتجين والمستهلكين سيعيد بوصلة أسواق النفط للاتجاه الصحيح
شهدت أسعار النفط في الفترة الأخيرة تذبذباً غريباً وغير مسبوق، إذ إنها انخفضت من منتصف أيار (مايو) إلى بدايات حزيران (يونيو) بنحو عشرة دولارات للبرميل بسبب تعافي الدولار وتوقع انخفاض الطلب الأمريكي على الخام. لكن الغريب في الأمر أن الأسعار ما لبثت أن عاودت الارتفاع بقوة كبيرة لترتفع عشرة دولارات للبرميل في 6 حزيران (يونيو) لتقترب من 140 دولارا للبرميل (الخام الأمريكي) بسبب أمور كثيرة، أبرزها مخاوف ارتفاع حدة الخلاف بين إيران والغرب.
وكثرت التحليلات بشأن ارتفاع وتغير الأسعار ونمو الطلب العالمي، لكن في الحقيقة يوجد أمران لا يمكن تبريرهما: أولهما الارتفاعات الكبيرة في أسعار النفط، وثانيهما التذبذب الكبير في أسعار مصدر الطاقة الأول في العالم ومحرك اقتصاده النفط.
إن مثل هذه التغيرات في الأسعار لن تخدم أحدا سوى بعض الأفراد في بورصات النفط. وعلى هذا الأساس أن مثل هذه التغيرات والقفزات في أسعار النفط لا تعكس واقعاً ولا تمثل حقيقة العرض والطلب بل هي انعكاسات لمخاوف من حدوث بعض المشاكل العالمية خاصة مع إيران وملفها النووي الشائك إضافة إلى ضعف عام وانكماش الاقتصاد الأمريكي ويعلم الجميع مدى ترابط أسعار النفط بالعملة الأمريكية.
ارتفعت أسعار النفط بنحو 90 في المائة ما بين أيار (مايو) 2007 والشهر نفسه في 2008، ولوقارنا معدل التغيير لبعض السلع الأخرى لوجدنا أن معدل سعر الغاز الطبيعي قد زاد بنحو 47 في المائة للفترة نفسها، بينما زادت أسعار المعادن مثل الألمنيوم والنحاس بنحو 3 إلى 10 في المائة، وارتفعت أسعار الذهب نحو 36 في المائة للفترة نفسها أيضا. ويبدو واضحاً أن الارتفاع في أسعار النفط أكبر من الارتفاعات في أسعار السلع الأخرى، ما يعزز الشعور بأن النفط كمصدر أول للطاقة في العالم قد يكون مستهدفاً.
انقسم المنتجون والمستهلكون واختلفوا في تعليل وتشخيص أسباب الارتفاع في أسعار النفط، فموقف منظمة أوبك أن هذه الارتفاعات مصدرها المضاربات وضعف الدولار، وفي الجهة الأخرى ترى الدول الغربية المستهلك (الأكبر للنفط) وبعض منظمات الطاقة العالمية أن أسباب هذه الارتفاعات تتلخص ببساطة بعدم وجود معروض كاف من النفط.
قبل الخوض في أسباب الارتفاعات وتحليلها، يبدو أن أحد أهم أسباب هذه الارتفاعات هو فشل بدائل النفط إلى الآن في لعب دور مهدئ لأسواق النفط. لقد حاول الكثيرون إقحام بدائل للنفط في توليد الطاقة بجميع أنواعها، فتم الزج بالمحاصيل الغذائية لتوليد الزيوت، وقامت الهيئات الحكومية في بلدان كثيرة بحمايتها ودعمها ودعم المزارعين والصناع.
والحقيقة أن منافسة الوقود الحيوي للنفط لم تعد فعالة بعد الأزمات الغذائية العالمية التي جاءت من تبني سياسات تشجع على استعمال الوقود الحيوي، ولا تزال دول الاتحاد الاوروبى تمضي قدماً في برامجها المستقبلية والتي تقتضي خلط ما نسبته 10 في المائة من الوقود الحيوي المتجدد بالوقود النفطي بنهاية العقد الحالي. طبعاً هذه السياسات قد أنتجت الكثير من الأمور السلبية مثل إزالة الغابات في آسيا لزراعة محاصيل الوقود الحيوي، إضافة إلى ارتفاع أسعار الغذاء.
ولمعرفة أسباب الارتفاع الحقيقية لا بد من تحليل الزيادة في الإنتاج والاستهلاك السنوي للنفط. وبحسب مصادر (أوبك)، فإن الفرق بين الطلب العالمي على النفط بين عامي 2006م و2007م كان نحو مليون برميل يومياً، أي أنها زيادة طفيفة ومتوقعة ولا تستحق أن تحدث خللاً في أسواق النفط العالمية.
بلغ معدل الاستهلاك العالمي للنفط عام 2007م نحو 85.8 مليون برميل يومياً، ويتوقع تقرير (أوبك) الأخير (يونيو 2008م) أن يصبح معدل الاستهلاك العالمي لعام 2008 نحو 86.8 مليون برميل يومياً، أي بزيادة نحو مليون برميل يومياً، وهي زيادة معقولة ومتوقعة ومصدرها الدول الآسيوية ودول (أوبك). والجدير بالذكر أن استهلاك الصين وحدها للنفط قد ارتفع ما بين الربع الأول من 2007م والربع الأول من 2008م بنحو نصف مليون برميل يومياً (وهو ما يعادل دخول سبعة ملايين سيارة جديدة للسوق سنوياً)، والنصف المليون الآخر هو من نصيب دول الشرق الأوسط والدول الآسيوية الأخرى كالهند، التي زادت طلبها على النفط 200 ألف برميل في نيسان (أبريل) الماضي، لتصل الكمية التي استوردتها الهند من النفط إلى 2.7 مليون برميل يومياً رغم الارتفاع الكبير في الأسعار.
إذاً باختصار ارتفع الطلب العالمي على النفط ما بين 2007م و2008م بنحو مليون برميل فقط، وهي زيادة معروفة سلفاً ولا تستدعي أن ترتفع أسعار النفط عن معدل أسعار 2007م بنحو 100 في المائة.
تستهلك الدول الصناعية الرئيسية OECD العشرون (أمريكا الشمالية، أستراليا، دول الاتحاد الأوروبي، اليابان، وكوريا الجنوبية) نحو 50 مليون برميل يومياً، أي أكثر من 58 في المائة من إجمالي الاستهلاك العالمي. وتشير مصادر (أوبك) إلى أن استهلاك هذه الدول من النفط في انخفاض، فمثلاً تقلص استهلاك هذه الدول من النفط ما بين عامي 2006م و2007م بنحو 300 ألف برميل يومياً، ويتوقع أن ينخفض معدل استهلاك هذه الدول في 2008م بنحو 100 ألف برميل عن معدل استهلاكها في 2007م والبالغ 49.34 مليون برميل يومياً، أي أن أكبر منظومة استهلاكية للنفط تشهد تراجعاً أقرب إلى الاستقرار في استهلاك النفط، وقد تراجع استهلاك هذه المنظومة عام 2008م عن استهلاكها عام 2006م (حيث كانت أسعار النفط تحت 100 دولار للبرميل) بنحو نصف مليون برميل يومياً.
وتشير التقارير إلى أن استيراد أكبر مستهلك للنفط في العالم (الولايات المتحدة)، للنفط ومشتقاته، قد انخفض في أيار (مايو) الماضي بأكثر من نصف مليون برميل عن نيسان (أبريل)، في إشارة واضحة إلى عدم نمو في الطلب الأمريكي على النفط، بل على العكس يبدو أن الارتفاع الكبير لأسعار النفط، وبالتالي ارتفاع أسعار مشتقاته، قد زهد المواطن الأمريكي في استهلاك النفط فخفّ الطلب، لكن لم تهدأ الأسعار، وهذه ردة فعل غير متوقعة. ومن أحد أسباب انخفاض الطلب الأمريكي على المشتقات النفطية زيادة استخدام الوقود المتجدد كالإيثانول والديزل الحيوي وخلطه مع الوقود النفطي.
وخلاصة القول إن استهلاك الدول الصناعية للنفط في تناقص مقابل زيادة في طلب الصين والهند وبعض دول (أوبك)، ونتيجة لهذه التفاعلات بين نمو الطلب في بلدان وعدم نمو الطلب في بلدان أخرى ارتفع الطلب العالمي بنحو مليون برميل يومياً. وأعلنت المملكة منذ بدايات 2008م وإلى الآن عن زيادة في الإنتاج تقدر بنصف مليون برميل يومياً، أي أن المملكة قد استوعبت وحدها جزءاً كبيراً من النمو العالمي على النفط.
يجب التنبيه إلى أن الطلب العالمي قد ارتفع في 2008م بنحو 1.2 في المائة (86.8 مليون برميل يومياً مقابل 85.7 مليون برميل يومياً عام 2007م)، لكن أسعار النفط الخام (الأمريكي) الآن وهي تحوم وتدور حول 140 دولارا للبرميل تمثل زيادة عن معدل أسعار 2007م بنحو 100 في المائة. وأما سلة (أوبك) فوصل معدل سعر السلة عام 2007م إلى نحو 65 دولارا، ووصل سعر سلة (أوبك) في 13 حزيران (يونيو) إلى 130 دولارا أي بارتفاع وصل إلى 100 في المائة. الأكيد أن زيادة الأسعار في حزيران (يونيو) 2008م لا تتناسب مع زيادة الطلب العالمي على النفط، ويبدو واضحاً وجلياً بالأرقام والحسابات أن للارتفاعات أسبابا أخرى خارج نطاق قاعدة العرض والطلب.
أصبح واضحاً للجميع أن أسعار النفط الحالية، التي قد ترتفع إلى مستويات أعلى، باتت تشكل تهديداً صريحاً للاقتصاد العالمي وتهدد بتباطؤ النمو العالمي. وفعلاً بدأ المراقبون يستشعرون بانخفاض الطلب العالمي على النفط نتيجة للارتفاع العالي للأسعار والذي قد يكون بداية ركود للاقتصاد العالمي.
ويأتي اجتماع جدة بين أهم المنتجين للنفط والمستهلكين (يعرض الجدول أهم الدول المنتجة والمستهلكة) لتدارس وتدارك الأوضاع المتأزمة في الأسواق النفطية، التي تشهد حالة أشبه بالارتباك وعدم الاستقرار وفقدان البوصلة التي تحدد المسارات واتجاهها.
وينبع دور المملكة في الدعوة لمثل هذا الاجتماع كون المملكة أكبر بلد نفطي في العالم، حيث تأتي في طليعة الدول المنتجة والمصدرة وصاحبة أكبر احتياطي عالمي مؤكد.
ولعل من أهم أهداف مؤتمر جدة العمل على تقريب وجهات النظر بخصوص أسباب الارتفاعات الأخيرة في أسعار النفط بين المنتجين والمستهلكين. وقد تبين لنا من التحليل السابق أن هذه الارتفاعات لا تخضع لقاعدة العرض والطلب فقط، وإنما ترجع هذه الارتفاعات إلى المضاربات غير المسؤولة والمحمومة على النفط، التي لها دور كبير في تهديد الاقتصاد العالمي، وأصبحت كالسوس تنخر في اقتصاديات الدول الفقيرة.
لا شك أن الاكتشافات النفطية الجديدة لا تتواءم مع قوة نمو الاقتصاد العالمي وطموحه وطلبه المتزايد على الطاقة، وأصبحت الشركات النفطية العالمية لا تعوض بسهولة عن طريق الاكتشافات الجديدة ما تستهلكه من النفط، ومن هنا يظهر أن الاستثمار في عمليات استكشاف واستخراج النفط يبقى مطلباً ملحاً من شأنه إزالة الريبة والشك من نفوس المتعاملين في بورصات النفط، وعليه لا بد أن ينتج عن لقاء جدة التزام بزيادة ضخ الأموال في صناعة النفط، ولا بد من الاستثمار في التطوير والبحث العلمي لتحديث المفاهيم ولتطوير تقنيات جديدة في زيادة فاعلية التنقيب والاستخراج والتكرير، ويجب على العالم الغربي أن يتكيف مع المتغيرات العالمية، ومن ضمنها ما يحصل في عالم النفط.
إن التخفيف من الضرائب الباهظة المفروضة على المشتقات النفطية من شأنها تخفيف معاناة الشعوب، وأن تجعل أسعار الوقود في متناول اليد. ما يحصل الآن للأسف هو النقيض، أي أن الحكومات الغربية تدعم أي بديل غير نفطي وتثقل وتكبل النفط بكل المعوقات حتى إذا ما بكت شعوبها أشارت بيدها إلى (أوبك). وأيضا لا بد أن ينتج عن لقاء جدة تعهد الآخرين بالعمل الجاد على زيادة إنتاجهم ولا يكفي تفرجهم وتعليقاتهم.
أخذت المملكة على عاتقها زيادة مباشرة تقدر بنصف مليون برميل في مدة قصيرة نسبياً، ولكن يدرك الجميع أن هنالك حدوداً لما تستطيع المملكة عمله وحدها، وعليه يجب أن يسهم المنتجون الآخرون سواء من داخل (أوبك) أو خارجها برفع سقف إنتاجهم وإعلانهم عن استثمارات جديدة لرفع الطاقة الإنتاجية.
ولأن النفط يمس حياة كل إنسان بشكل مباشر وصريح، فإن الملايين من البشر في جميع أرجاء الدنيا ستراقب هذا الاجتماع متأملة أن ينتج عنه ما يخفف حدة تقلبات أسعار النفط وغليانها. ولا شك أن الآمال والتطلعات كبيرة، والمؤمل أن ينتج عن هذا اللقاء التاريخي ما يخفف حيرة المتعاملين ويرشد المشككين بشأن الإمدادات والاحتياطات النفطية وعمرها.