انخفاض قيمة الدولار ودور المضاربة المتعاظم في الأسواق النفطية
يكاد يتفق جميع المنتجين والمستهلكين على حد سواء على أن ارتفاع الأسعار الحالية والذي يعد قياسيًّا وغير مسبوق في تاريخ النفط أنه ارتفاع لا مبرر له، وتزداد خطورة الارتفاعات بعد أن وصلت أسعار النفط المستويات قياسية خلال فترة قصيرة جداً وبأكثر من أحد عشر دولاراً في جلسة واحدة والتي لا يمكن لأي أحد من المسؤولين النفطيين المصدرين أن يخطط أو حتى يفكر في الوصول إلى هذا الحد وبهذه السرعة. كما أنهم يتفقون على أن الأمر لا علاقة له بنقص المعروض في الأسواق، وأن تزايد معدلات الطلب على النفط بسبب ارتفاع الطلبات التدريجية من قوى اقتصادية نامية مثل الصين والهند وبعض الدول الأخرى لا يتوافق مع القفزات السريعة التي تشهدها الأسعار، وبما أن الإمدادات الفعلية من النفط توازي أو تزيد قليلاً عن الاستهلاك الفعلي للنفط الخام فإن ازدياد الطلب على النفط بهذه الوتيرة غير حقيقي ولكنه ثابت في البورصات العالمية مما بدل على أن عوامل أخرى غير عامل المعروض النفطي والاستهلاك الفعلي تؤثر في أساسيات السوق وإرباكها. فالارتفاع القياسي في أسعار النفط حتماً لا يعود إلى نقص في الإمدادات وبشهادة الهيئات العالمية المتخصصة، لذا فالقضية محصورة في البورصات العالمية وتزداد خطورتها بعد أن وصلت أسعار النفط للمستويات قياسية خلال فترة قصيرة جداً وبارتفاع أحد عشرة دولارا في جلسة واحدة فقط والتي لا يمكن لأي أحد من المسئولين النفطيين المصدرين أن يخطط أو حتى يفكر في الوصول إلى هذا الحد وبهذه السرعة.
إن وصول أسعار النفط لهذه المستويات القياسية وخلال فترة قصيرة جداً في البورصات العالمية يشير إلى دخول عامل مهم في هذا الارتفاع وهو المضاربات التي أشعلها ضعف الدولار واتجاه المستثمرين للمضاربات على السلع بشكل عام والنفط بشكل خاص وهي لا تأخذ في الحسبان أساسيات السوق من عرض وطلب في الأسواق بل ترفع الأسعار بمستويات عالية وفي خلال مدة قصيرة متفاعلة مع التوقعات المبنية على توقعات مستقبلية مبنية هي الأخرى على بعض الشائعات والمخاوف والتهديدات والقلاقل السياسية التي ترتفع وتيرتها بين الحين والآخر أكثر من أي عامل محسوس آخر. وبما أن قضية ارتفاع الطلب محصورة في البورصات العالمية، فمن المهم التعرف على أسواق النفط العالمية وكيفية عملها وتداولها وآلياتها ثم التعرج على اللاعبين فيها والتي تثبت التحليلات والوقائع كما سنرى هنا بأن دورهم المتعاظم في أسواق النفط العالمية وتفاعله مع مجموعة من العوامل المؤثرة في إمدادات البترول بدأ يتشكل ويأخذ أبعاداً خطيرة وعاملاً مستقلاً ومؤثراً تأثيراً مباشراً ومحركا أساسياً في ارتفاع أسعار النفط، وذلك بإيجاده طلبًا غير حقيقي على النفط من جراء تلمسه الأرباح السريعة من خلال شرائه وبيعه النفط في عقود آجلة لا تعكس الطلب أو الاستهلاك الفعلي للنفط.
طبيعة السوق النفطية أو البورصة البترولية
تعتبر السوق النفطية، أو البورصة البترولية، وسيلة فاعلة لتسويق وإجراء التعاقدات الدولية والإقليمية للمنتج النفطي. ولها تأثير إيجابي في تنشيط حركة التعاقدات النفطية وانعكاسات راشدة على نظام تسعير النفط في الأسواق العالمية سواء كان في سوق لندن أو نيويورك أو سنغافورة. وللتعرف على أسواق النفط العالمية وكيفية عملها وتداولها لأكثر سلع العالم تداولا على الإطلاق، فلا بد في البداية من مقدمة وجيزة عن الوسائل والمقومات الخاصة بهذه السلعة التي تتميز بأنها أفضل مصادر الطاقة بل إنه يتفوق عليها جميعا في مزايا الوزن والحجم والحقلية والقيمة ومن أكثر السلع "سياسية" أو ارتباطًا بالسياسة العالمية والنزاعات والحروب الداخلية والدولية.
أنواع النفط والمعايير الدولية
إذا جازت المقارنة، فكما للبشر بصمة وراثية، فللنفط الخام أيضاً "بصمة جغرافية"، فله أنواع وخواص مختلفة تتوقف على وزنه النوعي ومحتواه من الكبريت وهما عاملان يختلفان باختلاف موقع استخراجه. وتصنف أنواعه ويشار إليها بالخام "الحلو" أو "الحامض "أي أنه إذا كانت نسبة الكبريت فيه تقل عن 0.5 في المائة فهو "حلو"، أما الخام الذي يحتوي على أكثر من 0.5 في المائة من الكبريت فيشار إليه أنه "حامض". ونأخذ مثلاً النفط السعودي وهو على خمسة أنواع فمنه النفط العربي الخفيف الممتاز الذي تبلغ كثافته حسب معيار جمعية البترول الأمريكية ما بين 36- 40 درجة وهو الزيت المعروف بالعربي الخفيف جدا ، والنوع الثاني هو الزيت العربي الخفيف بكثافة ما بين 32- 36 درجة، والزيت العربي المتوسط بكثافة 29- 32 درجة، الزيت العربي الثقيل بكثافة تقل عن 29 درجة حسب معيار APA. وبحكم أنه توجد أصناف ودرجات مختلفة كثيرة من النفط الخام، فقد تعارف البائعون والمشترون في كل سوق على عدد محدود من خامات النفط وجعلوها معيارا. وحيث إن أكبر الأسواق النفطية في العالم يوجد في لندنIPE ، فلقد تم استخدام خام برنت كمعيار لتسعير التعاملات في ثلثي مبيعات النفط الخام في العالم، رغم أن الكمية المباعة منه لا تتعدى 250 ألف برميل في اليوم، وهو كما يتضح يقل بكثير في الكمية عن أي من خامات السعودية التي تتبوأ مركز الصدارة في الإنتاج عالمياً والأصناف الأخرى من البترول فيتحدد سعرها بعد ذلك إما بخصم وإما زيادة بحسب جودتها. ويعني ذلك أن التحكم في اختيار وتحديد المعيار النفطي في سوق البورصة يأتي من واقع البلد الذي تقع فيه السوق النفطية، ويتكون مزيج ''برنت'' من زيوت لـ 15 حقلاًً مختلفاً في منطقتي برنت ونينيان في بحر الشمال، ويعتبر ''برنت'' من النفوط الخفيفة الحلوة بسبب وزنه النوعي البالغ 38 درجة وانخفاض نسبة الكبريت التي تصل إلى 0.37 في المائة. ويستخدم خام برنت كمعيار لتسعير ثلثي إنتاج النفط العالمي، خاصة في الأسواق الأوروبية والإفريقية. ويتضح جلياً في حالة شح ومحدودية الإمدادات ستتأرجح الأسعار ويفقد المعيار معياريته ولاسيما أن حقول بحر الشمال مشرفة على النضوب مما سيخلق مشكلة كبيرة للمتعاملين الذين سيجب عليهم البحث عن مزيج آخر للتسعير. ويباع مزيج برنت بسعر أعلى من سلة نفوط ''أوبك'' بنحو دولار للبرميل، وبسعر يقل عن خام غرب تكساس بنحو دولار أيضاً. ويتم تسعر الزيت العربي الثقيل في بورصة البترول الدولية بسعر ينقص خمسة إلى سبعة دولارات للبرميل عن سعر مزيج زيت برنت، فيما يسعر الزيت العربي الخفيف الممتاز وهو أغلى أنواع النفط السعودي بسعر بزيد على دولارين إلى أربعة دولارات للبرميل عن سعر مزيج برنت.
والمعيار المتبع في أمريكا الشمالية هو خام وسط تكساس المتوسط. وينتج خام غرب تكساس في غرب تكساس، ونقطة التسعير هي مدينة كوشينج في أوكلاهوما لأنها ملتقى لمجموعة كبيرة من أنابيب النفط ونقطة التوزيع إلى مختلف أنحاء الولايات المتحدة. ويستخدم خام غرب تكساس كأحد خامات القياس العالمية في تسعير الخامات الأخرى، خاصة في أمريكا الشمالية، ونظراً لجودته العالية فإنه المصدر الأساسي لاستخلاص البنزين منه في الولايات المتحدة. ويبلغ وزن خام غرب تكساس النوعي 396 درجة، ويحتوي على 0.24 في المائة من الكبريت فقط، ويتفوق على مزيج خام برنت وسلة نفوط "أوبك". وخام غرب تكساس أغلى من برنت بنحو دولار واحد. ويباع بسعر أعلى من سلة نفوط ''أوبك'' بنحو دولارين أعلى ونظراً لجودته فإنه المصدر الأساسي للبنزين في الولايات المتحدة.
ويعني ذلك أن جميع التسعيرات والتعاملات مع الولايات المتحدة في شؤون مبيعات النفط الخام تكون وفقاً للمعيار الأمريكي أي مقارنة بخام وسط تكساس المتوسط، ولكن أسعار الخام في بورصة نيويورك عادة ما يشار إليها بخام "الخفيف أو الحلو". وقد يشير ذلك إلى أي من عدة خامات محلية أمريكية أو أجنبية لكن الوزن النوعي ونسبة الكبريت فيها يقعان في نطاق معين للنفط الأميركي الخفيف WTI. وتسعره سلة أوبك OPEC Reference Basket واختصاراً بـ ORB الذي تقل جودته عن النفط الأميركي الخفيف WTI وبالتالي ينخفض سعره عادة بنحو عشرة دولارات، كما ويسعر الزيت العربي الثقيل في السوق الأمريكية ناميكس بأقل من سعر وست تكساس بنحو عشرة إلى 15 دولارا للبرميل، فيما يسعر الزيت العربي الخفيف الممتاز وهو أغلى أنواع النفط السعودي في سوق ناميكس الأمريكية بزيادة دولار إلى دولارين للبرميل عن سعر وست تكساس.
أما في بورصة سنغافورة فخام دبي يستعمل كمعيار لتسعير مبيعات خامات المنطقة الأخرى المباعة لدول آسيا. ويعود ذلك إلى أن خام دبي أحد خامات قليلة يتسنى التعامل فيها من خلال تعامل فوري واحد مقارنة بالعقود طويلة الأجل لخامات الخليج الأخرى، حيث يسعر الزيت العربي الثقيل في سوق شرق آسيا بأقل من دولارين إلى أربعة دولارات للبرميل، فيما يسعر الزيت العربي الخفيف الممتاز وهو أغلى أنواع النفط السعودي بزيادة ثلاثة إلى أربعة دولارات للبرميل.
كما أن "أوبك" لها أيضاً تسعيرة، تعرف بسلة خامات "أوبك" سعر سلة أوبك OPEC Reference Basket،ORB حاليا بين 50 و60 دولارا، وذلك لأننا نناقش سعر برميل من سلة "أوبك" الذي تقل جودته عن النفط الأميركي الخفيف WTI وبالتالي ينخفض سعره عادة بنحو عشرة دولارات وهي سبعة خامات، منها ستة أنواع تنتج من أعضاء "أوبك": الخام العربي الخفيف، وتنتجه المملكة، وخام دبي الإماراتي، وخام صحاري الجزائري، وخام ميناس الإندونيسي، وخام بوني النيجيري وخام تياخوانا الفنزويلي والخام السابع من غير الأعضاء في "أوبك" وهو خام إيستوس المكسيكي.
آليات الأسواق (البورصات) النفطية ووسائطها
إن نظرة سريعة على المداولات النفطية تبين أن النفط الخام هو أكثر سلع العالم تداولاً في العالم، ويباع النفط دولياً حسب اتفاقيات ثنائية تعقدها الدول المنتجة مع الدولة الراغبة في الاستيراد. ويتم تحديد الأسعار وفقاً لقوى العرض والطلب والزمن أو التاريخ الذي ستنفذ فيه هذه التعاقدات. وهذه القوى يتحكم فيها في المقام الأول عدد محدود جداَ من البورصات النفطية العالمية التي تنظم سوق النفط دولياًً، وتعتبر أهم القنوات التي تحكم العلاقة بين قوى الإنتاج والاستهلاك. ومن المعروف أن كبرى أسواق النفط في العالم توجد في بريطانيا، وتعرف بـبورصة البترول الدولية IPE ومقرها لندن. كما توجد أيضاً بورصة أمريكا NYMEX "نيمكس" في الولايات المتحدة ومقرها نيويورك، وفي الشرق الأقصى توجد بورصة SIMEX "سيمكس" ومقرها في سنغافورة.
عقود آنبة وعقود آجلة
إن العلاقات التعاقدية في الأسواق النفطية، بشكل عام، لا تختلف عن مثيلاتها في أسواق السلع الأخرى، أي أنها تعتمد في المقام الأول على قوى العرض والطلب، ويتحدد من خلالها شكل وأنواع وحجم وكم التعاقدات ما بين منتجي البترول وما بين مستهلكيه. ويتم تغيير الأسعار حسب العقود ووفقا لظروف السوق النفطية. ولكن وجه الاختلاف هو في أن ذلك يتم في شكل عقود آنبة أو عقود آجلة، ويتم ذلك عادة في صورة عقود آجلة تسلم في الشهر التالي وفي مثل هذا النوع من المعاملات يتفق المشتري على تسلم الشحنة ويوافق البائع على توفير كمية محددة من النفط بسعر متفق عليه مسبقا في موقع معين. ولا يتم تداول العقود الآجلة إلا من خلال معاملات مالية منظمة تسدد يوميا بناء على قيمتها الحالية في السوق والحد الأدنى للشراء هو ألف برميل. والعملة التي يسعر بها النفط هي الدولار الأمريكي أما سعر برميل النفط الذي يتم إعلانه بشكل يومي فهو للبيع الفوري في تلك الأسواق. وتأسيساً على ذلك فإن بورصة البترول بورصة سلعية تحكمها علاقات العرض والطلب لتنفيذه في شكل عقود حاضرة أو عقود آجلة كما هو النمط السائد في لغة التعاقد في الأسواق البترولية الدولية أو الإقليمية مما يجعل كل من عامل السعر وعامل الزمن هما المحددان لنشاط البورصات النفطية الذي يعتبر من أكثر السلع "سياسية" أو ارتباطًا بالسياسة العالمية. ومما لا شك فيه أن التجارة المستقبلية في السلع لها دور ضروري في استقرار الأسعار وتشكل في الأصل أحد أجزاء الاقتصاد العالمي، أي ما يعني أنها ليست خطراً بحد ذاتها، إذا لم يساء استخدامها بطريقة مفرطة ومن دون قيود، وتشير نشرة "إنتقريتد أويل أبدايت" الصادرة في نيويورك، إلى أن قيمة التعاملات في العقود الآجلة للنفط الخام (أي المضاربات في أسواق "نايمكس" في نيويورك و"آيس" في لندن منذ مطلع العام الجاري نمى حجم التداولات في عقود النفط إلى نحو مائة وأربعين مليار دولار (140 مليار دولار) يومياً! وكان حجم التداوليات قبل خمس سنوات لا يتجاوز تسعة مليارات دولار يومياً إن هذا النمو السريع من تسعة مليارات دولار يومياً إلى نحو مائة وأربعين مليار دولار يومياً في مطلع العام الجاري يوضح مدى تغلغل المضاربين على وسيطرتهم على السوق النفطية والتحكم في الأسعار كما سنرى لاحقاً.