صناعة المال من المال
من عصر المقايضة (مرحلة أولى) إلى عصر الذهب (مرحلة ثانية)، ومن عصور الذهب والفضية إلى عصر العملات الورقية المغطاة بالذهب (مرحلة ثالثة)، ومنها إلى طباعة الورق دون غطاء (مرحلة رابعة). هذه فلاشات على التطور المالي خلال عمر البشرية. بطبيعة الحال أخذ الانتقال من المرحلة الأولي إلى الثانية آلاف السنيين، وكذلك من المرحلة الثانية إلى الثالثة، وكل ذلك كان في نطاق الإنتاج الحقيقي من تجارة وتصنيع وتطوير. ولكن التحول من المرحلة الثالثة إلى الرابعة والأخيرة، أي من عصر العملات المغطاة بالذهب إلى طباعة الورق دون غطاء أخذ بضعة عقود زمنية فقط وبقرار من دولة واحدة هي أمريكا، وذلك عندما أعلنت رسمياً أنها لم تعد ملتزمة بتغطية عملاتها بالذهب قبل 37 عاماً من حدوث الأزمة المالية التي نعيشها اليوم وتحديداً في 1971م. وقد جاء القرار بعد أقل من 40 عاما من قرار الرئيس الأمريكي روزفلت في عام 1933م بمصادرة السبائك الذهبية من العامة واستبدلها بورق قانوني يثبت أحقية العامة في الحصول على هذا الذهب! ولاحظوا ماذا حدث خلال أقل من نصف قرن من تطور مالي كبير لا يمكن إنكاره أو التقليل من شأنه. ولكن يبدو أننا اليوم بحاجة إلى أسس جديدة لتجاوز الأخطاء التي هي طبيعة الحراك والديناميكية التي يعيشها العالم الاقتصادي. المسألة ليست صحة أم خطا ما حدث ويحدث! وليست نقدا أو مدحا! المسألة ببساطة شديدة دراسة وتحليل بهدف معرفة التفاصيل حتى يمكن الخروج بالحلول التي هي في أهمية الفاصل بين الحياة والموت!
الأرقام التي يتحدث عنها الغرب هذه الأيام حول المنتجات المالية من مشتقات ومن أوراق مالية متعددة ومعقدة تدار بطرق قد لا يفهمها الجميع بما في ذلك الذين أنشأوها وعملوا على تسويقها مخيفة جداً فهي قد تتجاوز أو تصل إلى 1000 تريليون دولار أمريكي (التريليون يعادل ألف مليار). فعلى سبيل المثال المشتقات المالية فقط على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية تتجاوز 182 تريليون دولار أمريكي، فيما يعتقد أنها فعلا تجاوزت قيمتها 1000 تريليون دولار أمريكي على مستوى العالم، وهو ما يعني أنها تزيد على اقتصاديات دول العالم الحقيقية مجتمعة، التي بلغت في عام 2006م نحو 59 تريليون دولار أمريكي، هو إجمالي الناتج المحلى لجميع دول العالم!! مما يعني أن المشتقات المالية تعادل 1.694 في المائة (ألف وستمائة وتسعة وأربعون بالمئة) من الاقتصاديات الحقيقية لدول العالم كلها بما فيها أمريكا والصين! والأمر الأكثر خطورة أن من أصل 182 تريليون دولار أمريكي مشتقات مالية في أمريكا، هناك 97% منها تدار من قبل خمس شركات استثمارية عالمية لا أحد على وجه الأرض يعلم كيف تدار، وليست خاضعة لإشراف أحد! مع العلم أن هناك تصنيفات لتلك المشتقات منها مشتقات أسعار الفائدة ومشتقات العملات والمشتقات الائتمانية ومشتقات الأصول.
لا أريد أن أسهب وأسبب صداعا مزمنا لأحد بتلك الأرقام رغم أن لدي مزيدا منها لمن أراد، ولكن أردت أولا، التعريف بأن ما حدث من أزمة الرهن العقاري في أمريكا قد يصبح مقبلات لوجبة قد لا تكون شهية للبشرية، إذا ما قورنت بما قد يحدث للمشتقات المالية، التي تباع في كل بقاع العالم دون أن يحق للمشترى التحقق من تفاصيل تلك المشتقات إلا في حدود معينة بحجة أن هذه أسرار النجاح لصناديق التحوط (Hedge Fund) ولصناديق التحوط (fund of hedge funds) ولا يرغبون في كشفها للمنافسين!
كل ذلك جاء من فكر ترسخ خلال عقود بسيطة، أقصد فكرة "صناعة المال من المال" وهو فكر أثبتت الأيام أنه فعلا "أسلحة دمار مالية شاملة" كما وصفها وارن بفت (Warren Buffet) المستثمر العالمي المعروف، حيث إنها غير مربوطة بإنتاج حقيقي وإنما أرقام على الورق ويتم توليدها من الورق. وكي أجعل الصورة أكثر قتامة فإن جزءا كبيرا مما يحصل في أسواق المال (سوق الأسهم) وبالذات جزء المضاربات المحمومة هو جزء من صناعة المال من المال، حتى أننا كمحللين أساسيين (Fundamental) أصبح ينظر لنا في السنوات القليلة على أننا موضة قديمة بالمقارنة بالأنواع الأخرى من التحليلات التي تعتمد على برامج رياضية بحتة تدرس حركة الأسواق في محاولة التنبؤ بحركتها المستقبلية بغض النظر عن الاقتصاد الحقيقي.
وفي مقابل كل ذلك، نجد أنه وقبل أكثر من 1400 سنة أعطانا ربنا عز وجل الصورة الحقيقية لأي نظام اقتصادي فهو يعيش ويمر بسنوات سمان وأخرى عجاف (حقيقة الدورات الاقتصادية)، وهو الأمر الذي تقره الرأسمالية اليوم تحت مسمى الانتعاش والكساد. وقد أوضحت تلك القاعدة الربانية السهلة كيف علينا أن نتعامل مع تلك الحقيقة الإلهية قبل أن يكتشفها البشر من خلال الحل الذي قدمه سيدنا يوسف علية السلام لعزيز مصر، من خلال فكر الادخار والإنفاق المبرمج فيما تسرف الرأسمالية اليوم وتقوم على فكرة مدمرة وهي الإنفاق والتشجيع على مزيد الإنفاق لتدوير العجلة الاقتصادية بأسرع وتيرة ممكنة وهو الأمر الذي خلق كل هذا الخلل الواضح في كل أمور البشرية وعلى رأسها تكدس الثروات بدلاً من توزيعها بشكل عادل عبر خلق فرص العمل والتنويع. والله من وراء القصد.