الأمريكيون يجلدون ذاتهم
صدقا لم أكن ممن كان يتوقع فوز المرشح الديمقراطي باراك أوباما بالرئاسة، ليكون أول رئيس أسود يدخل البيت الأبيض، مهما كانت حملته الانتخابية ناجحة وقوية وشخصيته جذابة وكاريزمية، ورغما عن كل استطلاعات الرأي التي منحته منذ البداية الأفضلية على منافسه الجمهوري، إلا أني كنت أجزم بأن الناخب الأمريكي سيفكر ألف مرة قبل أن يضع صوته في صندوق الانتخاب على خلفية بقايا عرقية ما زال لها وجود في ذهنيته، وأن التيار اليميني المتطرف لن يترك الأمور تسير بهذا الاتجاه، وبنيت توقعي على فرضيات حقيقية وليست وهمية تقوم على أن مؤسسات صنع القرار السياسية، الاقتصادية، العسكرية، والفكرية في الولايات المتحدة ليست مهيأة ولا مستعدة لقبول رئيس أسود في البيت الأبيض، ولكن هذا ما حدث في يوم الثلاثاء التاريخي، الذي ولدت فيه المعجزة وتحققت فيه المفاجأة المدوية، التي وصفها الأستاذ محمد حسنين هيكل بسقوط حائط برلين الأمريكي.
نعم لقد فعلها الناخب الأمريكي، فعلها هو ولم تفعلها الديمقراطية الأمريكية، وأرجوكم هنا التخفيف من هذا التعظيم والإشادة بديمقراطية أمريكا لهذا الحد، ففوز أوباما بكل ما يمثله من تناقضات ليس نتاج ديمقراطية نقية صالحة وطيبة إلى هذه الدرجة، ما أتصوره هو أن فوز أوباما كان جزءا من حالة جلد ذات أمريكية نتيجة لردة فعل شديدة وعنيفة اعترت الناخب الأمريكي على ما تعرض له من خداع قبل أربع سنوات، حين صوت لولاية ثانية للرئيس بوش مصدقا ما كان يُقال له من خطر وإرهاب يتربصان بالشعب الأمريكي، وسوّقت عليه أكاذيب تكشف بعد ذلك مدى زيفها، كما اعترف بذلك وزير الخارجية السابق كولن باول، الذي حملوه ملفات عرضها على مجلس الأمن لتبرير غزو العراق، فكانت جميعها مفبركة من قبل المخابرات الأمريكية دون علمه، فشعر الشعب الأمريكي بعدها بأنه طوال السنوات الثماني الماضية كان مخدوعا ومكذوبا عليه بما أظهره أمام العالم بالشعب الساذج الذي مرّت عليه أكاذيب بهذه البساطة.
ما يؤكد أن فوز أوباما وتحطيمه جدران العرق من ناحية، وحصوله على نسب فوز كاسحة من ناحية أخرى، ما هو في الأساس إلا إفراز لعملية نفسية وردة فعل طبيعية لشعب شعر بأنه خدع وضحك عليه، هو ذلك الإقبال المنقطع النظير وغير المسبوق في تاريخ الانتخابات الأمريكية للإدلاء بالأصوات، وما شهدته مراكز الاقتراع من إقبال لفت إليه الأنظار، فهذا الكم الكبير من المصوتين، خصوصا عنصر الشباب الذي شارك بفاعلية وزخم وبحجم لم يسبق له مثيل في كل الانتخابات السابقة، لعب الدور الحاسم والمؤثر في إخراج العملية الانتخابية من ثوبها الديمقراطي لتكون عملية عفوية للتعبير عن موقف تعبر عنه شعوب أخرى بالعنف والعصيان والاضطرابات، ولكن الشعب الأمريكي فضّل أن يعبر عن ردة فعله بعنف وعصيان مختلفين، حين صوّت وبقوة، ليس فقط لرئيس ديمقراطي أسود كسر به كل القيود، بل وإعطاء الديمقراطيين أغلبية مريحة في مجلسي الكونجرس النواب والشيوخ، لا تسمح للجمهوريين بتعطيل القوانين وعرقلة أداء الإدارة الديمقراطية.
إضافة لعنصر ردة الفعل النفسية، أسهمت عوامل أخرى في تمهيد الطريق لأوباما القادم من أصول إفريقية للوصول إلى رئاسة الولايات المتحدة، ليحقق بذلك حلم زعيم الحقوق المدنية الأسود مارتن لوثر كنج، وما فشل فيه القس جيسي جاكسون حين سعي لترشيح نفسه سابقا، وما تهيب من أقل منه كولن باول حين تهرب من الترشح كنائب رئيس في انتخابات 2004، الأول هو أن الجمهوريين خاضوا الانتخابات وهم في أسوأ حالاتهم وسمعتهم، وأشد مراحل فشلهم اقتصاديا وسياسيا ومعنويا، وزاد طينتهم بلة أن مرشحهم جون ماكين ظهر متهالكا ومستهلكا، والثاني الأزمة المالية التي أشعرت المواطن الأمريكي بالهلع خوفا على مستقبله وربط الأزمة بسياسات الجمهوريين وإدارة الرئيس بوش، حين تركتها تتفاقم دون أن تحرك ساكنا.
هذه العوامل الثلاثة النفسية، السياسية، والاقتصادية هي ما مهد الطريق لأن يتخذ الناخب الأمريكي قراره التاريخي متخطيا حاجز العرق ويصوت لأول رجل أسود، ليكون سيد البيت الأبيض، وكأنه بذلك أراد أن ينتقم من النخب السياسية على ما ارتكبته في حقه من أخطاء صورته وحش العالم وأدخلته في أزمة مالية أقضت مضاجعه لن تنعكس إلا على معيشة المواطن الأمريكي العادي أكثر من رجال المال والأعمال.
السؤال الآن، إذا كان الجمهوريون قد كذبوا وخدعوا الشعب الأمريكي واستغلوا صوته الانتخابي لتنفيذ سياسات كارثية عليه.. فهل سيفي الديمقراطيون بوعودهم وعهودهم.. أم يمارسون الخداع والكذب نفسيهما، ولعل أكبرها ترشيح رئيس أسود..؟ الأيام ستثبت أن لا فرق ما بين جمهوريين وديمقراطيين إلا في ملامح الوجه فقط.