التحدي الاقتصادي هو التحدي الأكبر أمام أوباما
منذ إعلان فوز المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية باراك أوباما أظهر الرجل احتفالية بدت كما لو أنها أقل كثيراً من المتوقع في مثل هذه المناسبة التاريخية المثيرة، وبدا عليه قلق ظاهر من ضخامة المهمة التي هو بصددها في ظل كونه يمتلك أقل القليل من الأدوات التي يمكن أن تساعده على أدائها. ولم يكن مستغرباً أن يسيطر وضع الاقتصاد الأمريكي على أول مؤتمر صحافي يعقده منذ انتخابه، وأن يكون معظم من حوله خلال هذا المؤتمر كبار مستشاريه الاقتصاديين, الذي كان قد أنهى للتو اجتماعا معهم حول سبل إنقاذ الاقتصاد الأمريكي أو حتى على الأقل الحد من حجم الضرر الذي سيلحق به جراء هذه الأزمة المالية التي تعصف به.
فالأخبار والمؤشرات الاقتصادية غير الإيجابية تتوالى تباعا لتؤكد بما لا يدع أي مجال للشك أن هناك ترديا مستمرا في أداء الاقتصاد الأمريكي، كان آخرها ما أعلن عنه يوم الجمعة الماضي من أن الاقتصاد الأمريكي قد فقد في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي 240 ألفا وأن معدل البطالة وصل إلى 6.5 في المائة, وهو أعلى معدل لها منذ عام 1994. كما أن هناك دلائل ومؤشرات أخرى تؤكد انتقال الأزمة المالية إلى الاقتصاد الحقيقي أو القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد الأمريكي من بينها إعلان كبرى شركات صناعة السيارات الأمريكية شركتا جنرال موتورز و فورد تحقيقهما خسائر كبيرة في الربع الثالث من هذا العام وتسريحهما أعدادا كبيرة من العاملين مع توقعات بأداء أكثر سوءا خلال الربع الرابع من هذا العام، ما دفع شركة جنرال موتورز في الأسبوع الماضي إلى الإعلان عن أنها تعاني نقصا حادا في السيولة وأنها في حاجة ماسة إلى الدعم الحكومي تجنبا لإفلاسها.
ما يعني أنه ليس فقط المؤسسات المالية الأمريكية هي التي في حاجة إلى خطة إنقاذ وإنما أيضا هناك حاجة ماسة إلى خطة إنقاذ أخرى تستهدف المؤسسات الإنتاجية. فليس من المقبول مثلاً أن تتدخل الحكومة الأمريكية لإنقاذ مؤسسات مالية تسبب تهور إداراتها وفسادها في وصولها إلى الحال الذي وصلت إليه, ومع ذلك يكون الحل في دعم حكومي سمح لكل العاملين فيها بالبقاء على رأس أعمالهم والاحتفاظ بمميزاتهم المالية، وكأن شيئا لم يحدث، بينما يعاني العاملون في المؤسسات الإنتاجية، أو مؤسسات الاقتصاد الحقيقي، تبعات وآثار ذلك فيسرح العاملون فيها وتتحمل تلك الشركات خسائر فادحة أثرها السلبي في الاقتصاد الأمريكي لا يقل خطراً بأي حال عن خطر إفلاس مؤسساته المالية، خاصة أن ارتفاع معدلات البطالة يعني أيضا تفاقم مشكلة سحب المنازل من المقترضين بسبب عجزهم عن السداد، ما يزيد من حدة تراجع أسعار العقارات, وبالتالي ارتفاع خسائر المؤسسات المالية، الأمر الذي سيحد من قدرة خطة إنقاذ المؤسسات المالية التي أقرت سابقا بتكلفة تزيد على 700 مليار دولار على تحقيق أهدافها.
ومن غير شك فإن مغامرات إدارة بوش العسكرية استنزفت الاقتصاد الأمريكي بتسببها في تضاعف الدين العام الأمريكي في أقل من ثماني سنوات بوصوله الآن إلى ما يزيد على 10.5 تريليون دولار، كما أنها جعلت الحكومة الأمريكية القادمة أقل قدرة على وضع خطة مناسبة لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي وحدت بالتالي من الخيارات المتاحة أمامها لتحقيق ذلك. لذا من المؤكد أن يُوجه الرئيس الأمريكي القادم كل جهوده وطاقته لمعالجة الوضع الاقتصادي الداخلي، في ظل غياب أي دوافع أيديولوجية يمكن أن تدفعه إلى مزيد من التدخل عالميا كما كان عليه الحال في إدارة بوش الحالية، وسنشهد على الأرجح ميلا نحو الانكفاء داخليا بسبب ضخامة المشكلات الاقتصادية المحلية, خاصة أن الولايات المتحدة لا تملك أصلا الموارد والإمكانات المالية التي تسمح لها بمغامرات أخرى مهما كان نوعها على المسرح العالمي، كما أن الناخب الأمريكي وفي ظل وضعه الاقتصادي المتأزم سيكون حكمه على أداء الرئيس الجديد مرتبطا بقدرة هذا الرئيس على إحداث تأثير ملموس في ظروفه المعيشية، وباراك أوباما أول من يدرك أن سوء وتردي الأحوال الاقتصادية أهم أسباب نجاحه في الوصول إلى سدة الرئاسة الأمريكية، وأن هناك بالتالي توقعات قد تكون مبالغا فيها جدا من قبل الناخب الأمريكي حول قدرته على تغيير كل ذلك وليس معنيا ألبتة هذا الناخب، في مثل هذه الظروف الاستثنائية، بما يحققه الرئيس من إنجازات خارجية.
هذه التحديات تخلق فرصة هائلة لباراك أوباما لأن يصبح واحدا من أعظم الرؤساء الأمريكيين، إلا أنها تحمل أيضا بذور الفشل الذي يصعب بل قد يكون حتى من المستحيل تفاديه أو الهروب منه، كونه سيُحمَّل، شاء أم أبى، وزر أخطاء إدارة بوش داخلياً وخارجياً، وهي تركة ثقيلة جداً وأكبر من أن يقدر أي رئيس جديد على حملها مهما كانت كفاءته وقوة الفريق الذي يعمل معه.