قمة العشرين

يعتبر قرار وزير البحرية البريطاني ونستون تشرشل قبل 97 عاما بالضبط، التحول إلى النفط بدلا عن الفحم وقودا للبوارج والسفن الحربية البريطانية، الأساس الذي أعطى هذه المادة صفتها الاستراتيجية. وتعزز هذا الوضع عقب الحرب العالمية الأولى والإعلان في مؤتمر لانكاستر أن الحلفاء سبحوا إلى النصر عبر أمواج من النفط.
لكن هذا البعد لم يلغ الجانب التجاري في هذه الصناعة، ففي نهاية الأمر هناك المنتج والمستهلك ووضع العرض والطلب والحاجة إلى الاستثمار. وطوال أكثر من قرن ونصف القرن من تاريخ الصناعة النفطية، ظل العاملان السياسي والتجاري يتجاذبان السوق. ورغم أن الشركات النفطية بقيت مهيمنة بسبب قدرتها على ترابط مختلف الجوانب في ميداني العمليات الأمامية والنهائية، إلى جانب علاقاتها مع المنتجين من الدول ذوات الاحتياطي والوصول إلى المستهلكين، إلا أن لاعبا جديدا برز بصورة واضحة في سبعينيات القرن الماضي ممثلا في الدول المنتجة، لكنه لم يستطع تغيير قواعد اللعب في الصناعة لصالحه بصورة نهائية، إذ لم تستطع هذه الدول ممثلة في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، الوصول إلى المرتبة التي تكون فيها طرفا في اتخاذ القرار الدولي.
وهناك مثلان يوضحان هذا الجانب، فعقب بروز (أوبك) لاعبا على المسرح العالمي، تبنت الدعوة إلى نظام اقتصادي عالمي جديد، وهي الدعوة التي وجدت طريقها إلى الأمم المتحدة والكثير من اللقاءات والمنتديات الدولية، لكنها لم تتمخض عن شيء يذكر، لأن الدول الغنية كانت تتصرف من منطلق أن قوة (أوبك) ظاهرة عابرة وأن عليها التعامل معها إلى أن تستعيد الدول المستهلكة زمام المبادرة بعد أن تهب رياح السوق لصالحها، وهو ما حدث فعلا. أما التجربة الثانية فكانت اللقاء الذي استضافته كانكون المكسيكية في الثمانينيات للبحث في قضايا التنمية ودور العالم الثالث، ولم تختلف نتائجه عن التجمعات الأخرى المماثلة.
يوم السبت المقبل يفترض أن تستضيف العاصمة الأمريكية واشنطن قمة العشرين التي دعا إليها الرئيس جورج بوش، وتضم فيمن تضم دولا نامية وأخرى منتجة للنفط مثل السعودية وروسيا. ومع أن العنوان الرئيس للقمة البحث في الأزمة المالية العالمية، ومع ضآلة حجم التوقعات فيما يمكن أن تخرج به قمة مثل هذه، إلا أن هناك بعض المؤشرات الإيجابية.
فرغم أنه لم يتقرر رسميا البحث في خيار إقامة نظام عالمي جديد يحل محل مؤسسات "بريتون وودز" كما يطلق عليها، وهي البنك وصندوق النقد الدوليين، إلا أن الطبيعة العالمية للأزمة الحالية وعجز المؤسسات القائمة، وهي نتاج ميزان القوى والرؤية السياسية التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، تتطلب نظرة جديدة. قمة العشرين في حد ذاتها بتشكيلتها ونوع القضايا التي ستتعرض لها مؤشر على ذلك.
الملاحظة الثانية أن تيار العولمة أصبح أكثر بروزا ووضوحا هذه المرة، ولعل في خطوة الاتحاد الأوروبي بتبني موقف موحد سيطرح على الإدارة الأمريكية الجديدة ويقوم على إعلاء راية الدبلوماسية الجماعية بدلا من التصرفات الأحادية التي ميزت إدارة بوش، وهو موقف يعاني في التحليل النهائي انتهاء عصر القطبية الواحدة التي تفعل ما يحلو لها.
الملاحظة الثالثة والأكثر أهمية أن سعر برميل النفط سيلعب دورا أكثر أهمية سواء في تسريع أو تباطؤ الكساد الاقتصادي الذي تتدافع موجاته لتغطي مختلف الأسواق العالمية. ليس هذا فقط، بل إن منطقة الخليج التي تعتبر خزان الاحتياطيات النفطية الرئيسية في العالم، مع تمتع بشيء من الفوائض المالية تجعلها قبلة زيارات المسؤولين الغربيين وآخرهم رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون، الأمر الذي يعطيها مقعدا في الطاولة التي ستقرر مرحلة ما بعد بريتون وودز.
وأهمية هذه النقطة لا تنبع فقط مما يمكن أن تدعيه هذه الدول لنفسها، فحتى المؤسسات التي تعتمد عليها الدول الغربية الرئيسية مثل الوكالة الدولية للطاقة تحذر في تقريرها حول التوقعات للسوق النفطية بعيدة الأمد حتى عام 2030 الذي سينشر يوم الأربعاء المقبل، أنه رغم توافر مخزونات كافية من النفط والغاز، إلا أنه ليس هناك ضمان لاستغلالها في الوقت الملائم وبالصورة الملائمة خاصة وأن هناك احتياجا لضخ استثمارات خلال فترة العقدين المقبلين بمعدل 350 مليارا كل عام في المتوسط.
الدول المستهلكة تعرف ما تريد: سعر منخفض للبرميل يسمح بالانتعاش الاقتصادي، لكن في الوقت ذاته توافر الإمدادات التي تحتاج إليها السوق. الغائب الرئيس من هذه الأمنية هموم المنتجين، فالتراجع في سعر أسعار النفط يعني شيئين: تشجيع المزيد من الاستهلاك وهو ما يتطلب زيادة المعروض من الإمدادات، لكن بسبب انخفاض سعر البرميل، فإن العديد من المشاريع الجديدة أو توسعة تلك القائمة يتم تأجيلها أو إلغاؤها، وهو ما بدأت بوادره فعلا.
تحقيق الاستقرار في السوق لصالح المنتجين والمستهلكين ظل هدفا عصيا على الدوام، ولعل لقاء واشنطن يضع خطوطا عريضة ويتم تشكيل خطوط عريضة للبحث فيه بصورة عملية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي