المواطنون الخليجيون يتطلعون لوحدة اقتصادية يلمسونها لمس اليد

المواطنون الخليجيون يتطلعون لوحدة اقتصادية يلمسونها لمس اليد

عام 2008 هو عام انطلاقة السوق الخليجية المشتركة، وهي حدث ـ على الرغم مما يعتري مسيرة التعاون الخليجي التي بدأت قبل 27 عاما في 25 من أيار (مايو) 1981 في أبو ظبي من تحديات وقضايا متشابكة ـ تبعث على الأمل والتحفيز على مواصلة مسيرة التعاون وبهمة أكبر، ولكن وسط تحديات متزايدة بعضها جديد والبعض الآخر متجدد منذ نحو ربع قرن.
وقبل أيام اختتم قادة التعاون لقاءهم التشاوري السنوي، ولم يصدر عن القمة ما يشير إلى هذه المناسبة، كما لم يتطرق تصريح معالي الأمين العام لدول مجلس التعاون الخليجي إلى تحديات المسيرة الخليجية التكاملية في هذه المناسبة، إلا أنه قال في الذكرى السابقة إن الحاجة باتت ماسة لمراجعة الفرص المتاحة بغية تفعيل العمل المشترك نحو المستقبل وبما يلبي آمال مواطني دول المجلس من غد أفضل لصالح أجيالها ولتحقيق الغايات المنشودة المتمثلة في السعي الجماعي إلى تكامل اقتصادي واجتماعي وسياسي يجسد الوحدة الخليجية التي تتوافر لها جميع المقومات التاريخية والحضارية والبشرية والمادية، مؤكدا أن المرحلة الراهنة تعد من أهم المراحل في مسيرة التعاون المشترك.
ويجمع خبراء ومحللون على أننا أردنا أن نبدأ منصفين، فإن مناسبة تأسيس مجلس التعاون الخليجي ـ كإطار للتكامل السياسي والاقتصادي الخليجي ـ ستظل راسخة في أذهان أبناء دول المجلس، وعالقة في ذاكرة التاريخ، تتذكره الأجيال بكل فخر واعتزاز لأنه تأسس في التوقيت المناسب - رغم كل الظروف الصعبة المحيطة به - ليدعم العلاقات الموجودة أصلا بين الدول الأعضاء ويقويها. كما أن إنجازاته لا يمكن إنكارها أو تجاهلها في مسيرة التكامل الاقتصادي، ولا سيما ما تحقق على صعيد المواطنة الاقتصادية، حيث تشمل تجارة التجزئة والجملة والعقار والاستثمار والتعليم والصحة، كما تم إنجاز التعرفة الجمركية الموحدة، وتم إلغاء الضريبة الجمركية بين دول المجلس في عام 2003. وأعلن عن انطلاق السوق الخليجية المشتركة منذ بداية 2008، حيث باشرت الدول الأعضاء بإصدار الأدوات التشريعية لتحقيق قيام السوق، ولا سيما على صعيد تحرير عناصر الإنتاج بكافة أشكالها، ولم يصدر من دول المجلس لحد الآن ما يشير إلى تأجيل موعد انطلاق العملة الموحدة عام 2010 على الرغم من كافة التكهنات، ووحدت دول مجلس التعاون الكثير من الأنظمة والقوانين في مجال الأمن والتعليم والصحة والتأمينات والتقاعد والتجارة والزراعة والصناعة والاستثمار وتداول الأسهم وتملك العقار والمجالين العدلي والقانوني.
وكتعبير عن رغبة التغيير ومواكبة التغيرات وافق قادة المجلس في قمتهم في مسقط عام 2001 على نص الاتفاقية الاقتصادية الجديدة التي تتضمن فصولا جديدة مثل الاتحاد الجمركي (الفصل الأول)، والسوق الخليجية المشتركة (الفصل الثاني)، والاتحاد الاقتصادي والنقدي (الفصل الثالث). وتخصص الاتفاقية الجديدة فصلاً مستقلاً عن التكامل الإنمائي بين دول المجلس (الفصل الرابع)، و تنمية الموارد البشرية (الفصل الخامس)، وفصلاً عن التعاون في مجالات البحث العلمي والتقني (الفصل السادس)، وعن النقل والاتصالات والبنية الأساسية (الفصل السابع). إلا أن ما يجمع عليه هؤلاء المحللين والخبراء أيضا هو حاجة دول المجلس لآليات تنفيذ فاعلة تتجاوز مرحلة القوانين الاسترشادية والاستراتيجيات البعيدة المدى والقرارات العليا إلى مرحلة آليات وبرامج التنفيذ الملزمة والقرارات التنفيذية لقرارات القمم. البداية الصحيحة يجب أن تكون بقرار سياسي يعطي صلاحية اتخاذ القرارات وإلزامية تنفيذها في كل ما يخص التكامل الاقتصادي الخليجي والمواطنة الخليجية بيد مؤسسات العمل المشترك الخليجية كما هو الحال بالنسبة للتجربة الأوروبية.
وعلى صعيد محطات التكامل الاقتصادي الكبرى ـ وبعد مرور 27 عاما على تأسيس المجلس، يرى هؤلاء الخبراء والمحللين أن العديد من الخطوات والقرارات المهمة تعثرت في التنفيذ الفعلي، بما في ذلك آليات احتساب القيمة الجمركية وصندوق الإيرادات الجمركية وتوزيعه والتعويضات. وعلى الرغم من ارتفاع حجم المبادلات التجارية البينية بين دول المجلس من 17.7 مليار دولار عام 2003 إلى نحو 35 مليار دولار عام 2007 أي بنحو الضعف، ، إلا أن نسبتها من مجموع التجارة الخارجية لدول المجلس لا تزال لم تتجاوز 9 في المائة. وهو المعدل نفسه الذي ظل سائدا طوال العقدين الماضيين تقريبا.
وبخصوص السوق الخليجية المشتركة يقول الأمين العام للمجلس إننا تجاوزنا مرحلة الإعداد للسوق، وبدأت المراحل التنفيذية الفعلية إلى جانب المتابعة والتقييم. ومن الأهمية بمكان في هذه المرحلة استكمال إصدار الأدوات التشريعية والقانونية داخل كل دولة بشأن مسارات السوق التي تستلزم ذلك، باعتبار ذلك مطلباً مهماً لسلامة تنفيذ ما ورد في إعلان السوق الخليجية المشتركة.
وتختص لجنة السوق الخليجية المشتركة ـ وهي مشكلة من وزارات الاختصاص في الدول الأعضاء - بالتعامل مع جميع القضايا المتعلقة بالسوق وتنظر في أي اقتراحات أو قضايا تتم إثارتها، والعمل على حلها أو رفعها إلى لجنة وزراء المالية والاقتصاد التي أناط بها المجلس الأعلى مهمة متابعة سير العمل في السوق المشتركة. إلى جانب هذه الآليات، يجري العمل حالياً على تشكيل هيئة قضائية judicial commission وفقاً للمادة 27 من الاتفاقية الاقتصادية ستنظر في أي قضايا لا يتم البت فيها من خلال الآليات المعتادة.
وبخصوص توحيد أسواق العمل، يقول الأمين العام إنه صدرت بشأنها عدة قرارات تمنح مواطني دول المجلس حق المساواة في مجال العمل في القطاعين الأهلي والحكومي. وصدرت قرارات تنفيذية على مستوى دول المجلس لتطبيق المساواة بين مواطني دول المجلس، واحتسابهم ضمن النسب المطلوبة في توطين الوظائف. وتواصل الأمانة العامة مع الدول الأعضاء العمل على إيجاد حلول لبعض الإشكالات المتعلقة بتطبيق هذا المبدأ في القطاعين الأهلي والحكومي بغية استكمال ذلك على مستوى دول المجلس. كما صدرت موافقة المجلس الأعلى على مد مظلة الحماية التأمينية عن طريق التقاعد المدني والتأمينات الاجتماعية لمواطني دول المجلس العاملين خارج دولهم في أية دولة عضو اعتبارا من كانون الثاني (يناير) 2006، ويُسهم ذلك في تسهيل تنقل العمالة المواطنة وتشغيلها فيما بين دول المجلس، ويحفظ لها اشتراكاتها في مجال التأمينات الاجتماعية والتقاعد كما لو كانوا يعملون في دولهم.
أما بخصوص الاتحاد النقدي لدول المجلس، فيعترف الأمين العام بأن هناك العديد من التساؤلات التي تثار بشأنه، وعلى ذلك أن دول المجلس تتطلع إلى تحقيقه في موعده المحدد، حيث أكدت قمة الدوحة التزام الدول الأعضاء بتحقيق الاتحاد النقدي والعملة الموحدة وتكليف وزراء المالية ومحافظي مؤسسات النقد والبنوك المركزية بوضع جدول مفصل لاستكمال جميع متطلبات الاتحاد النقدي في ضوء تقييم سير تنفيذ البرنامج الزمني الذي سبق أن أقره المجلس الأعلى في عام 2001، ورفع ذلك للقمة المقبلة المقرر عقدها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 في مسقط.
أن الوحدة الاقتصادية بين دول المجلس تواجه اليوم معضلات اقتصادية يزداد وقعها سنة بعد أخرى ويتسع نطاق انعكاساتها على جوانب الحياة المختلفة بوتيرة متسارعة حتى أوشكت تلك المعضلات أن تخلف وراءها سلسلة من التبعات الاجتماعية والسياسية لم يحسن الاقتصاد الخليجي في الجملة التعامل معها حتى الآن. بل إن بعض جوانب الاقتصاد الخليجي بات يتكامل مع الاقتصاد العولمي ـ بدليل اتفاقيات التجارة الحرة ـ بأسرع مما يتكامل ذاتيا.
وفي نطاق تلك المعضلات الاقتصادية، يقول مراقبون إن أهم هذه القضايا وأخطرها هو موضوع البطالة في صفوف المواطنين، وتفاقم مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية، بل حتى السياسية. وتقدر الإحصائيات أن معدلات البطالة وصلت إلى مستويات خطرة، وأن هناك حاجة لخلق فرص عمل لنحو مليون شخص في دول الخليج خلال السنوات العشر المقبلة, إلا أن أنماط التنمية الراهنة ستكون عاجزة عن توليد وظائف جديدة لهذها العدد من العاملين، كما أن معظم هذه الوظائف قائم بالفعل على أساس التكلفة العمالية المنخفضة أي الأيدي العاملة الأجنبية. ولا تزال العمالة الوافدة تشكل فيها نسبا مرتفعة بالنسبة إلى إجمالي قوة العمل في جميع الدول الأعضاء (البحرين 60 في المائة، الكويت 77 في المائة، عمان 46 في المائة، المملكة العربية السعودية 60 في المائة، قطر والإمارات 80 في المائة) حيث تصبح النسبة الإجمالية 70.5 في المائة من أجمالي قوة العمل في دول مجلس التعاون.
ولعل من أبرز التحديات التي تعايشها المسيرة التنموية الوطنية بدرجة أو بأخرى ولم تتخلص منها رغم مرور أكثر من أربعة عقود تنموية بهذه الدول استمرار هيمنة الموارد الأحادية على مصادر توليد الدخل والتي تؤدي إلى تضييق خيارات التنمية وفرص النمو, بل الإحساس بالانكفاء للوراء خاصة أيام تراجع الإيرادات النفطية، كذلك استمرار محدودية الطاقة الاستيعابية للأسواق المحلية بسبب الاعتماد المفرط على الاستيراد وعدم قدرة القطاع الصناعي على تلبية الطلب المحلي الاستهلاكي والاستثماري. فمنذ عام 1987 وحتى عام 2007 بلغ متوسط مساهمة الإيرادات النفطية 58.1 في المائة من إجمالي إيرادات القطاع العام.
وعلى الرغم من أن صندوق النقد الدولي يتوقع أن تحافظ دول مجلس التعاون الخليجي على معدلات نمو قوية خلال عام 2008 وبمتوسط 7.5 في المائة خلال عام 2008، إلا أن التحدي الأكبر الذي يواجه دول مجلس التعاون هو معدلات التضخم، حيث يتوقع أن ترتفع كمعدل من 5 في المائة عام 2007 إلى 9 في المائة عام 2008، مشيرا إلى أن الضغوط التضخمية في المنطقة ارتفعت بدرجة كبيرة في الأشهر القليلة الماضية بسبب الطلب المحلي القوي وارتفاع الإيجارات في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث أدى تدفق العمالة الأجنبية وارتفاع مستويات معيشة السكان إلى نقص في المعروض من المساكن. وقد أثمرت جهود دعم المواد الغذائية الرئيسية وبناء المساكن وزيادة الرواتب عن نتائج إيجابية إلا أنها لم تستطع القضاء على زيادة الأعباء وبالذات على محدودي الدخل.
وما يثير قلقا أكبر ومتزايدا في الأوساط السياسية والاقتصادية والشعبية الخليجية في التعامل مع مشكلة التضخم هو أن البنوك المركزية في هذه الدول باتت تمارس سياسات نقدية - بحكم أمر الواقع الأمريكي المتمثل بقيام مصرفها المركزي بتخفيض سعر فائدته ـ تعاكس احتياجات اقتصاداتها في الوقت الحاضر. وبتقديرات أولية وعامة وإذا ما قدرت الصادرات الخليجية بنحو 540 مليار دولار عام 2007 (معهد التمويل الدولي يقدر الصادرات النفطية الخليجية فقط بنحو 381 مليار دولار عام 2007) والواردات الخليجية بنحو 350 مليار دولار، وعلى افتراض انخفاض قيمة الدولار بنحو 10 في المائة عام 2007 أمام العملات الرئيسية وعلى افتراض أيضا أن ثلثي الصادرات الواردات الخليجية تتم مع غير الولايات المتحدة الأمريكية، فإن ذلك يعني أن الدول الخليجية تكبدت نحو 37 مليار دولار خسائر على هيئة انخفاض قيمة صادراتها الفعلية و23 مليار دولار على هيئة ارتفاع قيمة وراداتها الفعلية أي 60 مليار دولار عام 2007 من جراء ارتباط قيمة عملاتها الدولار الأمريكي.
كما أن القطاع الخاص لا يزال يطالب بشراكة حقيقية في التنمية على مستوى التخطيط والتنظيم والتنفيذ. وهذا يجب أن يترجم بدوره في قيام عمل مؤسسي يبدأ من اجتماعات القمم الخليجية ويمر عبر كافة الأجهزة التخطيطية والتنفيذية في الأمانة العامة.
والمواطنون الخليجيون يتطلعون أيضا إلى وحدة اقتصادية يلمسونها لمس اليد، ويجنون ثمارها في مواقع حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، ووظائفهم ومساكنهم وأحيائهم. ولا يخفى المراقبون ارتباط ذلك بإصلاح أشمل مقبلة عليه دول المجلس في المجالات الدستورية والتشريعية والسياسية يجسد مشاركة المواطنين في التشريع والرقابة والإصلاح من خلال المؤسسات التشريعية المنتخبة، وتستند مهامها إلى الشفافية والمسؤولية وإلاجتماعية المشتركة والحريات العامة ومحاربة الفساد، وبناء مؤسسات المجتمع الحديثة والنظام القضائي المتطور، وتسهم في صناعة الحياة بحرية وفاعلية وصدق تخرج دول المجلس من حالة الانكشاف الخارجي إلى حالة اندماجية تكاملية قادرة على الاستمرار والنمو.

الأكثر قراءة